محمد القصبجي... عملاق العود والتلحين (1 - 2) - غاية التعليمية
غاية التعليمية يكتُب.. خطف الموسيقار محمد القصبجي الأضواء في عالم الموسيقى الشرقية، إذ يُعد من أعلام الملحنين المصريين في القرن الماضي، فقد صنع مجده الفني بألحانه العذبة وبراعة عزفه على آلة العود، ومزج بين الأصالة والأساليب الغربية المتطورة، ولحن خلال مسيرته نحو 1250 أغنية، شدا بها عدد كبير من المطربين والمطربات، منهم منيرة المهدية، وأم كلثوم، وأسمهان، وفتحية أحمد، وليلى مراد، ورغم رحيله قبل نحو 59 عاماً، في 26 مارس 1966، لا يزال إبداعه المتفرد يخضع للدراسة والتحليل في الأكاديميات الفنية، ويثري وجدان المستمع العربي. كرّس القصبجي حياته للموسيقى والتلحين، وكان الأغزر إنتاجاً بين ملحني عصره، وأضاف إلى النغم الشرقي ألواناً من الإيقاعات الجديدة والألحان السريعة والجُمل اللحنية المنضبطة والبعيدة عن الارتجال، وأدخل بعض الآلات الغربية إلى التخت التقليدي، وتسلّم راية التجديد الموسيقي بعد رحيل فنان الشعب سيد درويش.
اخر الاخبار العاجلة عبر غاية التعليمية أخبار محلية ودولية، وكذلك أخبار الر ياضة وخاصة كرة القدم يلا كورة و يلا شوت اليوم.
أُطلِقت على القصبجي ألقاب عدّة، منها «صانع النجوم» و«أستاذ الأساتذة»، وتعلّم على يديه محمد عبدالوهاب ورياض السنباطي العزف على آلة العود، وبفضل ألحانه قفزت المطربة أم كلثوم إلى قمة الغناء، وحققا معًا مجدًا فنيًا غير مسبوق، وظل يصاحب فرقتها الموسيقية عازفًا للعود، وارتضى بلقب «صاحب أشهر كرسي خلف أم كلثوم».
وهناك تسجيل صوتي نادر لإحدى حفلات أم كلثوم، يُظهر براعة القصبجي في العزف على العود، وتجاوب الجمهور معه، ويحفظ التاريخ الفني العلمي للقصبجي دوره البارز في دراساته لآلته المفضلة، وما أجراه عليها من محاولات لتعديل مقاييس صنعها، وصولًا بها إلى أقوى وأرخم صوتٍ، ووصفه مؤرخو الموسيقى الشرقية بأنه كان عالمًا وباحثًا وخبيرًا بصناعة الآلة، كما هو خبير بعزفها.
وكان يقتني مجموعة عالية القيمة من آلات العود، ويخص كل آلة بنوعٍ معيّن من العزف، فهذا عود التقاسيم، وكان يزيده وترًا سادسًا لكي يوسِّع إطارًا أكثر للترديد بين ديوان وآخر في عزف التقاسيم، وهذا عود لتلحين الطقاطيق، وآخر للأدوار والأغاني الطويلة.
إعلان لأسطوانة «إن كنت أسامح وأنسى الأسيّة» عام 1927
ويعتبر القصبجي واحدًا من القلائل الذين يجيدون تدوين النوتات الموسيقية، التي أخذها عن والده، فهو معروف بجمال خطه، لذا كثيرًا ما كان والده يعهد إليه بإعادة تدوين بعض النوتات الموسيقية، فكان لا يخجل من أن يسأله عن أسماء العلامات الموسيقية وأزمنتها، وعندما بدأ التلحين دوَّن كل ما عزفه وابتكره من ألحان، وتعد تلك خبرة نادرة بين الملحنين في عصره.
وتأثر بفن القصبجي كثير من الملحنين، منهم رياض السنباطي وفريد الأطرش. ومن المعروف أن السنباطي من تلاميذ القصبجي في العزف على العود، بينما فريد الأطرش من أمهر العازفين على تلك الآلة الشرقية، لكنّه ظل يتبع مدرسة أستاذه، ويتضح ذلك في أشهر معزوفاته وتقاسيمه على العود، واعتاد أن يستهل بها حفلاته الغنائية.
«أستاذ الأساتذة» يعلم عبدالوهاب والسنباطي العزف على العود
الطفل الشقي
شاء القدر أن يولد محمد علي إبراهيم القصبجي في 15 أبريل عام 1892، بعد 29 يومًا فقط من ميلاد سيد درويش، ليكونا منارةً للموسيقى العربية في القرن العشرين، وتعرّف القصبجي على فنان الشعب أثناء إقامة الأخير في القاهرة بين عامي 1918 و1923، وخلال تلك السنوات أنجز معظم ألحانه المتفردة، وامتلك ناصية التجديد، وتسلّمها القصبجي بعد رحيله.
نشأ القصبجي في حارة قواديس بشارع حسن الأكبر في حي عابدين بالقاهرة، وكان والده علي القصبجي منشدًا وملحنًا ومدرسًا لآلة العود، وتعلّق الابن بحب الموسيقى منذ صغره، لكنّ الأب أراد له نشأة دينية، حيث يحفظ القرآن ويرتل آياته، ويصبح عالمًا من علماء الفقه والدين. أما الوالدة عائشة عثمان بشناق، فكانت على عكس رغبة الوالد، تتمنى أن ترى ولدها أفنديًا، يختال بين شباب الحي بالبدلة والطربوش، ويتحدث باللغتين الإنكليزية والفرنسية، وأغدقت في تدليل ولدها الوحيد بين أربع بنات بعد وفاة أخيه أحمد، حتى أصبح أكثر أطفال الحارة شقاوة.
العمامة والقفطان
وقد ألحقه والده بإحدى المدارس الأوليّة، فأتم حفظ القرآن الكريم، وفي عام 1903 التحق بمدرسة عثمان باشا ماهر الابتدائية في منطقة القلعة بالقاهرة، واضطر إلى ارتداء العمامة والقُفطان، وشبّ الصبي في صراع بين تحقيق أمنية والده وعشقه الجارف للموسيقى والغناء، وأن يصبح يومًا من نجوم الطرب، مثل سلامة حجازي وعبده الحامولي.
وكان ناظر المدرسة، الشيخ أحمد الحملاوي، شاعرًا متمكنًا في اللغة العربية، ولفت نظره ذكاء القصبجي الصغير، فقرَّبه إليه، وأولاه رعايته، مما صقل موهبة التلميذ النابه، ودفعه للقراءة والاطلاع، ورغم تفوّقه في الدراسة، فقد ظل الفن يخايله، فكان ينتهز فرصة مغادرة والده المنزل، ليمسك عوده ويحاول العزف عليه، وكم كانت فرحته عندما يدق بإصبعه على الأوتار فتخرج منها بعض النغمات.
وأراد القصبجي الصغير أن يمتلك آلة عود خاصة به، لكنّ المصروف الذي يأخذه من والده لا يكفي، فلجأ إلى نجّار الحي وطلب منه أن يمنحه عودًا من الخشب طوله 16 سنتيمترًا، وثبت في نهاية هذا العود رزتين خلعهما من «تختة» المدرسة، وأخذ يراقب والده، فكلما انقطع وتر من أوتار عوده أسرع والتقطه. واستطاع أن يشد هذه الأوتار على قطعة الخشب، وكانت فرحته طاغية بامتلاك أول عود في حياته، وعمره لا يتخطى عشر سنوات.
تياترو إسكندر
حاول والده أن يقصيه عن طريق الفن بشتى الطرق من دون فائدة، وعلى الرغم من اجتهاده في المدرسة، كان يعنفه ويطالبه بمضاعفة المذاكرة. وتشجيعًا له على الدراسة كان يَعده بأنه إذا حفظ دروسه سيصطحبه إلى تياترو إسكندر فرح، ليحظى بسماع صوت الفنان الشهير الشيخ سلامة حجازي، ومشاهدة مسرحياته الغنائية، فكان هذا حافزًا كبيرًا للقصبجي من أجل التفوق، وبعد عودته من المسرح يسترجع ما سمعه من غناء وألحان مطربه المفضل.
وفي عام 1911، أنهى القصبجي دراسته الدينية، فألحقه والده بمدرسة المعلمين، غير أن الموسيقى والغناء تأصلا في نفسه، فكان يغني ألحان الشيخ سلامة حجازي لزملائه في الفصل، ويجد منهم كل التشجيع. وأحس الوالد بزيادة تعلّق ابنه بالموسيقى، وخشي معارضته أو إبعاده عنها، فبدأ يشجع هذه الهواية، وأهداه عودًا من أعواده، وبدأ في تعليمه العزف عليه، وتلقينه بعض المقامات الموسيقية.
وبعد عام تقريبًا، انتقل القصبجي من الهواية إلى الاحتراف، وعمره 20 عامًا، وتلقى دعوة من أحد الأعيان لإحياء حفل زفاف في القناطر الخيرية (شمال القاهرة)، وتسلّم عربونًا قدره خمسة جنيهات، إلّا أن الفنان الناشئ اصطدم بمشكلة الفرقة التي سترافقه، فلم يجد أمامه إلّا أن يستعين بزملائه في المدرسة، وكانت سهرة ناجحة، كافأهم عليها والد العريس بأن منح كل فرد من الفرقة جنيهين زيادة على الأجر المتفق عليه.
وحفزه ذلك على مواصلة نشاطه الفني إلى جانب دراسته، حتى تخرّج في مدرسة المُعلمين عام 1914، وحاول إقناع والده بممارسة الفن، إلا أن أباه عارضه بشدة، وقدّم طلبًا إلى وزارة المعارف لتعيين ابنه في وظيفة مُعلِم بإحدى المدارس. وبحث القصبجي عن حيلة تبعده عن الوظيفة، وتعلّل بضعف الإبصار، وأخذ يشير إلى العلامات في عكس اتجاهها، ونجحت خدعته ورسب في الكشف الطبي، واستُبعِد اسمه من كشف التعيين.
لكن فرحته لم تكتمل، إذ فوجئ باستدعائه مرة ثانية لإعادة الكشف الطبي، بعد أن أوصى والده رجال القومسيون الطبي بمراعاته، ونجح في تلك المرة، على الرغم من إشاراته العكسية للعلامات، وتم تعيينه معلمًا بمدرسة زينب بنت خليل يحيى في بولاق، في أبريل عام 1915، وعُهِد إليه بتدريس اللغة العربية والحساب والتاريخ والجغرافيا، ولم يجد أمامه إلا الخضوع لرغبة والده، فتسلّم الوظيفة، دون أن ينسى شغفه بالفن.
كان القصبجي يؤدي وظيفته في الصباح، وبعد انتهاء اليوم الدراسي يعود إلى منزله مسرعًا ليخلع الجِبّة والقفطان ويرتدي البدلة والطربوش، ويمارس هوايته الفنية. وفي 10 مايو 1917، قدّم استقالته من وظيفته في التدريس، وبدأت مرحلة جديدة في حياته.
تخوت العوالم
استهل القصبجي مشواره الفني مغنيًا يرّدد أغنيات مطربي عصره، ومنهم صالح عبدالحي، وعبداللطيف البنا، وعندما أراد أن يغيّر وجهته إلى التلحين، اعترضته مشكلة النصوص، ورفض أي مؤلف أن يتعاون مع ملحن ناشئ، وبدأ في نظم بعض الكلمات وتلحينها، وكان من بين تلك الأغاني «الحب له في الناس أحكام»، و«الصبر ياما نصَف مظلوم»، و«العين بتفضح كل مغرم».
وتخلّى عن الغناء بصوته، واتجه إلى العزف على العود، ليضمن دخلًا ماليًا ثابتًا، وخلال السنوات من 1918 إلى 1923، لحّن القصبجي بعض الطقاطيق التي تغنّت بها مطربات الصالات.
وكان إلى جانب عمله يقوم بتدريس آلة العود في نادي الموسيقى الشرقي، ومن بين تلاميذه محمد عبدالوهاب (الذي أضحى لاحقًا موسيقار الأجيال)، وفي المساء يشارك بالعزف في تخوت العوالم، واستمر يعمل فيها، وكان آخرها تخت أم كلثوم.
أم كلثوم تصل إلى قمة الغناء بألحان «صانع النجوم»
الطقاطيق الخفيفة
التقى القصبجي الفنان محمد عبده صالح، (عازف القانون المعروف)، وقدّمه الأخير للمطربة توحيدة، وكانت من المطربات المشهورات آنذاك، وغنت له دور «الحب له في الناس أحكام»، وكان هذا اللحن فاتحة الخير للقصبجي الملحن، فأقبلت عليه بقية المطربات يطلبن ألحانه.
وتنبهت شركات الأسطوانات لهذا الملحن الشاب، وبدأت تسجّل أغانيه، وكان اتجاه الأغاني في تلك الفترة إلى الطقاطيق الخفيفة، وأراد القصبجي لنفسه الانتشار، فاتصل بالمؤلف محمد يونس القاضي، الذي أمدّه ببعض نصوص الطقاطيق، من بينها «الهزار والفرفشة»، و«شال الحمام حط الحمام»، وغيرهما، وقامت شركات الأسطوانات بتسجيلها مقابل خمسة جنيهات للملحن، وجنيهين للمؤلف.
الفن الراقي
وتوقّف القصبجي عن تلحينه الأغاني الهابطة، وابتعد عن هذا اللون من الغناء، وعمل على الارتقاء بالأغنية، وحتى يتمكن من تقديم هذا الفن الراقي، قرر أن يتعلم أصول الموسيقى ونظرياتها، وعمل على تثقيف نفسه، فاشترى بعض الكتب الموسيقية من ميدان العتبة، وبدأ في دراستها، وأخذ يستمع إلى ألحان من سبقوه من الفنانين العرب الكبار، وبعض الأعمال من الموسيقى الغربية محاولًا تذوقها.
وداوم على حضور حفلات دار الأوبرا الملكيّة، واستمع إلى الفرق الأجنبية من أوركسترا سيمفوني، وفرق أوبرا، ومشاهدة عروض الباليه. وكانت أمنيته أن تُتاح له فرصة السفر إلى إيطاليا للدراسة، وظل يبحث عن الثقافة الموسيقية أينما كانت، دون تعصُّب للون واحد، باستثناء موسيقى الجاز، التي وصفها بأنها موسيقى غير معبّرة، كما كان القصبجي دائم الاتصال بقادة الفرق الموسيقية، ليتعلم منهم مبادئ التوزيع الموسيقي.
متوسطاً أم كلثوم والشاعر أحمد رامي
أول ملحن عربي يبيع مليون اسطوانة بصوت أم كلثوم
كان الموسيقار الراحل محمد القصبجي مُقلاً في ظهوره الإعلامي، وفي حوار نادر أجرته معه مجلة الكواكب المصرية عام 1960، خرج عملاق العود والتلحين عن صمته، وكشف تفاصيل علاقته بالموسيقى، وحكاية أغنية من تلحينه، شدت بها أم كلثوم، بيع منها مليون اسطوانة!
وقال القصبحي: «وأنا طالب في الابتدائية بالأزهر الشريف، هِمتُ عشقاً بآلة العود، وكان أبي شغوفاً بالموسيقى، يجيد الضرب على العود إجادة تامة، إلى حد أنه كان يعطي بعض الدروس الخصوصية في العزف خلال أوقات فراغه، وورثت عنه هذا الشغف، ولاحظ أنني أنفق كثيراً من الوقت في المران على العزف».
وخشي والده أن يشغله العود عن الدراسة، فأخفاه عنه في دولاب وأغلق عليه بالمفتاح، لكي يمنعه من العزف، لكنه أدرك أنه لن يترك العزف على العود أبدا، فأخرج العود من الدولاب إلى مكانه في غرفة الضيوف، وتركه يمارس هوايته وأعطاه دروسا في العزف السليم.
وفي بداية مشواره، توطدت علاقة القصبحي بالفنان زكي مراد، ولحّن له أغنية، وكانت أول أسطوانة تسجلها له شركة بيضافون، ووصف مشاعره في تلك الفترة قائلا: «كنت أشعر في ذلك الوقت أنني بدأت رحلة المستقبل العريض والألحان الجميلة، كنت صاحب هواية، أكتب الشعر والزجل وألحنهما، عزفت الألحان للأصدقاء في جلسات السمر التي جمعتنا في بيت صديقي زكي مراد».
ونجحت أسطوانة أغنية زكي مراد «مليش مليك»، وحققت مبيعات كبيرة، فبدأت شركات الأسطوانات تتجه إلى محمد القصبجي، لتطلب منه تسجيل ألحانه، ومنها شركات بيضافون، وأوديون وجرامافون بصوت كبار الفنانين، منيرة المهدية، وزكي مراد، والشيخ سيد الصفتي، وصالح عبدالحي.
والتقى القصبجي كوكب الشرق أم كلثوم، التي قررت أن تعتمد عليه في تلحين أغنياتها، واختارت بعض قصائد الشاعر أحمد رامي، وطلبت منه أن يلحنها، بعدما تدربت على لحنه الأول «قال إيه حلف ميكلمنيش»، وبعد وفاة الشيخ أبوالعلا محمد، أصبح القصبجي صاحب المكانة الأولى لدى أم كلثوم.
وكان القصبجي أول ملحن عربي يبيع مليون نسخة من أغنية له على أسطوانة، وهي أغنية «إن كنت أسامح وأنسى الأسية» بصوت أم كلثوم، وغنتها عام 1927.
كُنا قد تحدثنا في خبر محمد القصبجي... عملاق العود والتلحين (1 - 2) - غاية التعليمية بأستفاضة، ويمكنك تصفح جميع الأخبار المتعلقة بهذا الشأن عبر موقعنا غاية التعليمية الالكتروني.
0 تعليق