حرص منير مراد على انتقاء الكلمات بعناية فائقة، والمعبرة عن مزاجه الشخصي والوجداني، وميله للمرح، وساعده على ذلك ظهور جيل شعري يبحث عن التفرد، ويطمح لتغيير مسار الأغنية الرومانسية، وأسقط من قاموسه المفردات المستهلكة، منهم حسين السيد، ومرسي جميل عزيز، وفتحي قورة، وعلي مهدي، وإسماعيل الحبروك، ومن الأجيال اللاحقة مجدي نجيب وعبدالرحيم منصور. وبدت ألحان مراد وثيقة الصلة بميله الدائم إلى المرح في حياته الشخصية وبين أهله وأصدقائه، وروى ابن شقيقته الفنان زكي فطين عبدالوهاب، أن خاله كان مصدر البهجة والسعادة لوالدته المطربة ليلى مراد، وكانوا يقضون إجازة الصيف في منطقة المعمورة بمدينة الإسكندرية الساحلية، ويحضر إليهم منير من القاهرة ومعه آلة العود، وتمتد السهرات حتى وقت متأخر من الليل، وهو يغني وينثر تعليقاته ودعاباته، ودائمًا ما كان يقاوم أحزانه وهمومه الخاصة بالانشغال بفنه.

شادية تعطيه نصيحة غالية بعد صدمة رفض لحنه الحزين

الضلع الثالث

في بداية مشواره الفني، كاد مراد يغيّر اتجاهه، لكن الظروف ساهمت في تشبثه بقناعاته الموسيقية، عندما قدّم لحنًا حزينًا لفيلم من إخراج حلمي رفلة، ورفضه الأخير، وتلقى الملحن الشاب صدمة موجعة، وحدث ذلك في حضور المطربة شادية، فانتحت به جانبًا، ونصحته قائلة: «ابدأ حياتك بلحن فرايحي مش لحن حزين»، وكان لتلك النصيحة مفعول السحر، وسر تحوّله إلى الألحان المبهجة.

وبعد هذا الموقف، حدثت توأمة فنية بين شادية ومراد، وكانت بداية انطلاقته الموسيقية في نهاية الأربعينيات، بصوتها المعبّر عن الفرح والبهجة، وأحدثت ألحانه فارقًا نوعيًا في أغانيها، بعد نجاحها مع ألحان محمد فوزي ومحمود الشريف، وأصبح الضلع الثالث في رحلتها الغنائية، وأظهر الجانب الخفي من تكوينها النفسي والوجداني، وكان تعاونه معها سببًا رئيسًا في شهرتها بلقب «الدلوعة”.

ولحّن مراد لشادية حوالي 20 أغنية في أفلامها السينمائية، منها «إن راح منك يا عين»، و«ألو إحنا هنا»، و«دوّر عليه تلقاه»، و«شبك حبيبي»، و«مقدرش أحب اتنين»، و«يا دنيا زوقوكي بالعز والهنا» كلمات فتحي قورة، و«يا سارق من عيني النوم»، كلمات جليل البنداري، ودويتو «حاجة غريبة» مع عبدالحليم حافظ، من كلمات حسين السيد.

امتلك منير مراد أسلوبًا مختلفًا في تلحين الأغاني، والتي تبدأ بوضعه فكرة الأغنية ثم جلوسه مع المؤلف لوضع كلماتها، ثم تلحينها لتأتي المرة الأخيرة بتحفيظ المطرب أو المطربة طريقة أداء الأغنية لتخرج بالشكل الذي رسمه في ذهنه، ولذا كانت أغانيه مختلفة ومتفردة في شكلها وطريقة أدائها.

ابن العائلة الفنية يلحن لشقيقته ليلي مراد «بالاتحاد والنظام والعمل»

مصباح البهجة

ومضى مراد حاملًا مصباح البهجة، ليضيء تجارب مطربات أخريات، منهن الشحرورة صباح في أغنية «اللي تمنيته لقيته» كلمات فتحي قورة، وفايزة أحمد «شغلوني عيونك» كلمات مصطفى عبدالرحمن، ووردة الجزائرية «من يوميها» كلمات علي مهدي، ونجاح سلام «يعني وبعدين» كلمات فتحي قورة، وشريفة فاضل «الليل» كلمات محمد حمزة، و«لما راح الصبر» كلمات حسين السيد، ومها صبري «غلاب الهوى» كلمات محمد حمزة، وعايدة الشاعر «أنا أحبك» كلمات عبدالرحيم منصور.

وحلّق مراد بعيدًا عن سرب التكتلات الفنية، باستثناء تجربته مع شادية وعبدالحليم حافظ، ليقدّم لحنًا واحدًا أو اثنين لمطربات ومطربين آخرين، والتقى بصوت محرم فؤاد في «شفت بعيني» كلمات مرسي جميل عزيز، وغنت شقيقته المطربة ليلى مراد من ألحانه «أنا زي ما أنا» كلمات محمد علي أحمد، و«حقك عليا» كلمات فتحي قورة، والأغنية الوطنية «بالاتحاد والنظام والعمل» كلمات جليل البنداري.

وتعد «بالاتحاد» من الألحان النادرة لمراد في مجال الأغاني الوطنية، وغنتها ليلى مراد في بداية ثورة يوليو عام 1952، وتقول كلماتها «على الإله القوي الاعـتماد، بالاتحاد والنظام والعمل، انهضي يا مصر يا خير البلاد، وانعمي بالمجد وأمضي للرشاد، جيشنا وشعبنا كلنا شعارنا، إن دعا النداء نبذل الدماء، للوطن فداه».

زكي فطين عبدالوهاب يروي ذكرياته مع خاله في إجازة المصيف

كعب الغزال

وتتابع ألبوم اللحن الواحد للموسيقار منير مراد مع المطرب الشعبي محمد رشدي في «كعب الغزال يا متحني» كلمات حسين السيد، وعادل مأمون «ابعد عن الحب» كلمات فتحي قورة، وهاني شاكر «قسمة ونصيب» كلمات مجدي نجيب، وغنت له عفاف راضي «ابعد يا حب» كلمات مرسي جميل عزيز.

ووضع مراد بصمته المتفردة في التابلوهات الاستعراضية، وقدّم لحن «قلبي يا غاوي خمس قارات» كلمات الشاعر فتحي قورة، وأداء نجمي الكوميديا فؤاد المهندس وشويكار في فيلم «مطاردة غرامية» (1968) للمخرج نجدي حافظ، فضلًا عن تلحين عدد من التابلوهات الراقصة للنجمات تحية كاريوكا، وسامية جمال، ونعيمة عاكف.

ولحن مراد استعراض «يا نورا» للنجمة نيللي وثلاثي أضواء المسرح (سمير غانم وجورج سيدهم والضيف أحمد) في فيلم «نورا» (1967)، إخراج محمود ذو الفقار.

وبعد سنوات روى مراد أسباب ابتعاده عن تقديم لون الاسكتشات، بقوله: «أسستُ شركة إنتاج مع شقيقي وأنتجت فيلم (أنا لحبيبي) للفنانة شادية، وفيلم (نهارك سعيد) وحققا إيرادات كبيرة، وبدأنا ننتج أكثر ولكن لم نحقق مكاسب، فوجدت المنتجين يطلبونني في تلحين الاستعراضات، فبدأت تقديمها لكي أعيش، كما صممتُ الرقصات لأنني أضع فكرة الأغنية والاستعراض، وأنا أحب تقليد الفنانين وكنت حزينًا أنه لم يخرج شخص لاستكمال ما قدمته”.

محمد منير يستعيد تراث موسيقار البهجة بغناء «حارة السقايين»

ضحك ولعب

قدم منير مراد معظم ألحانه في السينما، وحققت نجاحًا كبيرًا، واستعادها المطربون والمطربات في حفلاتهم الغنائية، وتجاوب معها الجمهور بشكل لافت، وبذكائه المعهود انتبه المطرب عبدالحليم حافظ إلى موهبة هذا الملحن، وكان العندليب قد حقق شهرته من خلال ألحان كمال الطويل ومحمد الموجي، واقتصرت تجربته على الأغنية العاطفية.

وكعادته، أضاف مراد بُعدًا آخر لغناء عبدالحليم حافظ، واتضحت شخصيته في جميع ألحانه للعندليب واتسمت بالمرح والحيوية عدا أغنية «بأمر الحب» كلمات فتحي قورة، وقدم له ألحان أغنيات «ضحك ولعب وجد وحب» و«قاضي البلاج»، كلمات مرسي جميل عزيز، و«تعالى أقولك»، و«وحياة قلبي وأفراحه» كلمات فتحي قورة، و«حاجة غريبة»، و«بكرة وبعده» كلمات حسين السيد، و«أول مرة تحب يا قلبي» كلمات إسماعيل الحبروك.

وتعد أغنية «ضحك ولعب وجد وحب» من أكثر الأغنيات المعبّرة عن روح المغامرة الشبايية، واعتمد مراد في تلحينها على المزج بين القالب الغربي والشرقي، واستغل كل أصوات الممثلين ليغنوا مع عبدالحليم حافظ في مشهد داخل فيلم «يوم من عمري» وهم: عبدالسلام النابلسي، وزبيدة ثروت، وسهير البابلي، والثلاثي المَرِح، ولأول مرة يدخل المزمار الشعبي في ألحانه، لتكتمل درامية المشهد برقصة الحصان على نغمات المزمار والإيقاع الموسيقي.

«اللي تمنيته لقيته» لقاء غنائي نادر مع صوت الشحرورة صباح

قاضي البلاج

ومنير مراد من الملحنين الذين اتسمت ألحانهم بالتحديث الدائم، وسنجد أنه استفاد كثيرًا من تجربة الموسيقار محمد عبدالوهاب، وإسهاماته في جميع ألوان الغناء، منها القالب الاستعراضي الشهير «اللي يقدر على قلبي» كلمات حسين السيد، وغناء ليلى مراد وشاركها الغناء محمود شكوكو، وإسماعيل ياسين، وإلياس مؤدب، وعزيز عثمان.

وأصبح مراد من أبرز فرسان التلحين الاستعراضي، واكتملت تجربته مع عبدالحليم حافظ في فيلم «أبي فوق الشجرة» (1969)، ولحن له استعراض «قاضي البلاج» كلمات مرسي جميل عزيز، وبعدها توقف تعاونهما الفني، وظلت صداقتهما ممتدة حتى رحيل العندليب عام 1977.

وأسدل «مولد يا دنيا» (1976) الستار على تجربة مراد مع الأفلام الاستعراضية، وقدم استعراض «شبيك لبيك» كلمات مرسي جميل عزيز، وغنته المطربة عفاف راضي مع أبطال الفيلم، وأعاد اكتشاف النجمة لبلبة بعد تجربتها في تقليد الفنانين، ولحن لها «فتحت الشيش»، و«دنيا» ضمن أغاني هذا الفيلم الذي أخرجه حسين كمال، وحقق إيرادات خيالية مقاربة لفيلم «أبي فوق الشجرة» لنفس المخرج، وفيلم «خلي بالك من زوزو» بطولة سعاد حسني، وحسين فهمي، وإخراج حسن الإمام.

ملحن الاستعراضات يلتقي المهندس وشويكار في «خمس قارات»

حب وزواج

تزوج منير مراد ثلاث مرات، الأولى من فتاة يهودية إيطالية، أنجب منها ابنه الوحيد «زكي»، ثم أشهر إسلامه وتزوج الفنانة سهير البابلي لفترة تجاوزت 9 سنوات بين عامي 1958 و1967، وتعد الحب الحقيقي في حياته، وعلقت البابلي على ذلك بقولها، إن منير دخل الإسلام برغبته وعن اقتناع ومن أجل إتمام الزواج منها، وأنهما بالفعل جمعتهما علاقة عاطفية، وأنها تزوجته لأنه شقيق الفنانة الراحلة ليلى مراد، ولكن عدة خلافات نشبت بينهما، بالإضافة إلى غيرته الزائدة التي أنهت زواجهما بالطلاق.

وتزوج مراد للمرة الثالثة من ميرفت حسني شريف، ويُقال إنها أخت الفنان تامر حسني من الأب، واستمر ذلك الزواج حتى وفاته إثر أزمة قلبية مفاجئة، في 17 أكتوبر 1981، وبعد سنوات من الإبداع المتصل، أثرى فيها مكتبة الموسيقى العربية بألحانه المتفردة، والسابقة لعصرها، ولكنها لا تزال حاضرة في وجدان عشاق أعماله الفنية الخالدة.

الغيرة الزائدة تتسبب في انفصاله عن زوجته الفنانة سهير البابلي

«الترجمان» يطير مع موسيقار الأجيال إلى باريس

درس منير مراد في مدارس «الفرير» الفرنسية بالقاهرة، وقطع دراسته، لكنه أجاد اللغة الفرنسية، وعمل في متجر لبيع الأدوات الكهربائية، وظهرت موهبته الفنية في السادسة عشرة من عمره، وبدأت محاولاته لتلحين الأغاني المشهورة، لكن بموسيقى «الجاز»، وبرع في تقليد المطربين والمطربات بشكل كاريكاتوري في جلساته مع أصدقائه.

وعمل مراد مساعدًا لعدد من المخرجين، منهم زوج شقيقته الفنان أنور وجدي، وفي ذلك الوقت تعرّف على موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب عن طريق شقيقته ليلى، واستعان به عبدالوهاب خلال جولاته في باريس ليترجم له عن «الفرنسية».

ورغم علاقته الجيدة بالوسط الفني، اقتصرت صداقات منير مراد على 3 فقط، هم: الموسيقار محمد عبدالوهاب، والموزع الموسيقي اليوناني أندريه رايدر، والمطرب عبدالحليم حافظ، وهناك صورة نادرة تجمع منير والعندليب داخل طائرة ويظهر معهما الموسيقار بليغ حمدي، وهناك أيضًا تسجيل نادر لجلسة خاصة جمعت منير مع العندليب وشقيقته ليلى مراد، وهم يرددون أغنيتها «سنتين وأنا أحايل فيك» كلمات مأمون الشناوي ولحن رؤوف ذهني.

«عاش هنا» يخلد ذكرى الفنان الراحل

أدرج الجهاز القومي للتنسيق الحضاري في مصر، اسم الفنان منير مراد، في مشروع «عاش هنا»، لتخليد ذكراه عبر الأجيال المتعاقبة، ووضعت لافتة على باب منزله الذي يقع في شارع عدلي بمنطقة وسط البلد في القاهرة. وتكريما للفنان منير مراد بعد سنوات من رحيله، أصدر المجلس الأعلى للثقافة التابع لوزارة الثافة المصرية، كتاب «التياترجي منير مراد» يؤرخ لحياة وأعمال الفنان المتعدد المواهب، ويأتي الكتاب ضمن مشروع بحثي ضخم بعنوان «تأريخ السيرة”.

ولاتزال حياة الفنان منير مراد الحافلة بالإبداع المتفرد، حاضرة في مرايا النقد والتحليل الموسيقي، رغم مرور عشرات السنين على رحيله، باعتباره من رواد الملحنين الذين سبقوا عصرهم، ومهدوا الطريق للأجيال اللاحقة.