النمسا تحاول التعايش مع اليمين المتطرف مع تجنب الاستفزازات
انضمت النمسا إلى قائمة الدول الأوروبية التي سبقتها بالتصويت لحزب يميني متطرف حقق فوزاً معنوياً في الانتخابات العامة، حيث تصدر حزب الحرية الذي أُسس في الخمسينيات على يد ضابط سابق في قوات الأمن النازية (إس إس) نتائج الانتخابات في نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، وهذه هي المرة الأولى التي يحتل فيها حزب يميني متطرف المكانة البارزة في المشهد الانتخابي بالنمسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع أن حزب الحرية سبق أن كان جزءاً من حكومات سابقة كشريك في الائتلاف الحاكم، إلا أنه لم يتولى رئاسة أي من تلك الحكومات، وربما يتكرّر هذا السيناريو اليوم رغم فوزه بالانتخابات، فربما يظل الحزب خارج السلطة تماماً إثر رفض كل الأحزاب الأخرى التحالف معه، وخصوصاً في ظل وجود زعيمه هيربرت كيكل، في المقابل، يرفض الحزب المتطرف الانضمام لأي حكومة ائتلافية لا يرأسها كيكل شخصياً، وقد وضعت هذه التطورات النمسا في حالة غموض، بعد تردد الرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلن في تكليف زعيم الحزب الفائز بتشكيل الحكومة كما هو العرف، بعد التشاور مع الأحزاب الكبرى، دعا الرئيس قادة هذه الأحزاب للتشاور فيما بينهم بشأن الائتلافات المحتملة قبل تقرير من سيكلف بتشكيل الحكومة، لكن على أي حال، حتى إذا اتفقت الأحزاب على إبقاء حزب الحرية خارج السلطة، فإن فوزه في الانتخابات يشير – بما وصفه زعيم الحزب – إلى “عصر جديد، ليس فقط في النمسا، بل في جميع أنحاء أوروبا”.
في غضون خمس سنوات فقط، تمكن حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف من زيادة شعبيته بشكل كبير، حيث حقق ارتفاعاً قدره 13 نقطة مئوية مقارنة بالانتخابات العامة لعام 2019، إذ حصل حينها على 16٪ فقط من الأصوات، ليرفع نسبة تأييده هذه المرة إلى حوالي 29٪.
كثير من الناس يعيدون سبب “نهوض” حزب الحرية بعد سلسلة الفضائح التي أحاطت به في السنوات الماضية إلى زعيمه الحالي هيربرت كيكل، إذ أنه بعد سنوات من فضيحة إيبيزا، التي أطاحت بالحزب من الحكومة في عام 2019 وأدت إلى الدعوة لانتخابات مبكرة، بدأ كيكل مسيرته بعيداً عن الفضائح ونجح في استعادة شعبية الحزب والبناء عليها لتحقيق المزيد.
تداعيات “فضيحة إيبيزا”
في تلك الفترة، تورط زعيم الحزب السابق هاينز- كريستيان شتراخه، الذي كان نائب المستشار، مع نائبه يوهان غونيدوس في الحزب، إذ ظهر الرجلان حينها في فيديو مُسرب يعود إلى عام 2017، وهما يجلسان في شقة في جزيرة إيبيزا الإسبانية مع سيدة روسية تدعى أليونا ماكاروفا، زعمت أنها حفيدة رجل أعمال روسي ثري ومؤثر، واتُهم في حينه بأن الرجلين كانا يناقشان مع ماكاروفا كيفية مساعدة حزبها في الحصول على عقود مع الحكومة النمساوية مقابل تغطية إعلامية إيجابية، وكشف ذلك الشريط عن مدى الفساد داخل الحزب وسوء استغلاله لموقعه في الحكومة لبيع عقود حكومية مقابل خدمات خاصة.
بقي كيكل بعيداً عن الفضيحة خلال فترة شغله لمنصب وزير الداخلية، ونجح خلال السنوات التالية في الصعود داخل الحزب المتطرف مستفيداً من عدة عوامل ساعدت في بناء شعبيته وانتخابه زعيماً للحزب في مطلع عام 2021، من هذه العوامل أنه خلال جائحة “كوفيد-19″، أصبح كيكل أحد أبرز الأصوات المنتقدة لإجراءات تقييد التجمعات التي فرضتها الحكومة، وكان هذا هو السبب الرئيسي في بدء بناء شعبيته، كما أضاف إليه موقفه الصارم ضد المهاجرين واللاجئين وانتقاده لسياسة الحكومة في دعم الحرب في أوكرانيا، واتهامها بالتسبب في التضخم.
كيكل … “تلميذ” يورغ هايدر
يُعد كيكل واحداً من أكثر زعماء حزب الحرية تطرفاً، ويعتبر يورغ هايدر، الزعيم الأسبق للحزب الذي توفي في حادث سير عام 2008، مثله الأعلى. كان هايدر شخصية مثيرة للجدل وأثار انقسامات كبيرة داخل حزبه بسبب آرائه و تصريحاته اليمينية المتطرفة، كما أن والدي هايدر كانا عضوين نشطين في الحزب النازي، ولقد دافع هايدر مراراً عن تاريخ النمسا النازي وتاريخ عائلته.
كان كيكل لفترة من الزمن كاتباً لخطابات هايدر وكان وراء العديد من التصريحات المثيرة للجدل التي أصدرها الزعيم الأسبق الراحل، وكان كيكل هو الذي قدم شعار حملة الحزب في عام 2010، والذي أثار كثيراً من النقاش والانتقادات، وهو “دم فيينا – كثرة الأغراب ليست جيدة لأحد”، وكان هو أيضاً من كتب في أحد خطابات هايدر مهاجماً رئيس الجالية اليهودية في فيينا، آرييل موزكانت، قائلاً: “كيف يمكن لأحد اسمه آرييل أن تكون يداه ملطختين بالقذارة لهذه الدرجة؟” ولعب في هذا التصريح على الرموز النمطية العنصرية عن اليهود بوصفهم قذرين.
احتفظ كيكل بآرائه المعادية للمهاجرين وانحيازه ضد التنوع عندما أصبح وزيراً للداخلية في عام 2017، وخلال فترة توليه الوزارة، أثارت تصريحاته جدلاً واسعاً وتم اتهامه باستخدام تعابير نازية، من جهة أخرى، أدت سياسته تجاه اللاجئين وإشارته في أكثر من مناسبة إلى خطوات تتعارض مع القوانين الأوروبية حول حقوق الإنسان في التعامل مع اللاجئين إلى توتير علاقته مع الرئيس النمساوي (آنذاك) فان دير بيلن الذي لم يتردد في انتقاده وتحذيره من تجاوز القوانين الأوروبية. قد يكون هذا هو السبب في تردد الرئيس الحالي في تكليفه بتشكيل الحكومة بشكل تلقائي كما هو المعتاد بعد أن يحقق حزب ما المرتبة الأولى في الانتخابات.
جدير بالذكر أن كيكل يتعاطف مع حركة “أيدانتيتارين”، أو حركة “الهوياتية”، وهي حركة قومية متطرفة تركز على “عرقية” الشعوب الأوروبية في مواجهة التنوع الثقافي والهجرة والإسلام، فقد شارك زعيم الحركة في النمسا، مارتن سيلنر، في اجتماع سري نهاية العام الماضي في ألمانيا حضره أعضاء من حزب “البديل لألمانيا” الألماني اليميني المتطرف، وطرح سيلنر خلال الاجتماع خطة لترحيل ملايين من المهاجرين واللاجئين من ألمانيا بمن فيهم من يحملون الجنسية الألمانية، أثار هذا الاجتماع غضباً شديداً وأعاد للأذهان اجتماع النازيين قبل محرقة “الهولوكوست”، الذي ناقش “الحل النهائي” الذي كان مقدمة لتلك المحرقة.
تبنّي أفكار “أيدانتيتارين”… وتأييد موسكو
في العام الماضي، قال كيكل إنه لا يرى مبرراً لحظر حركة “أيدانتيتارين”، بل بالعكس، روّج لدعم حزب الحرية الحركة عبر تأييده ل”المشروع السياسي” الذي تقترحه. أيضاً، لا يخفي كيكل ولا حزبه مثل هذه الأفكار، إذ يشير الموقع الانتخابي للحزب إلى أن زعيمه يؤيد “إعادة الأجانب غير المرغوب فيهم” ويرغب في جعل النمسا “غير مريحة” للأجانب وطالبي اللجوء و”محصنة”.
ولقد ساعدت هذه المواقف المتطرفة في تعزيز قاعدة كيكل بين الناخبين النمساويين المشككين تجاه اللاجئين والمهاجرين. أكثر من ذلك، زادت شعبية حزبه بشكل كبير بسبب مواقفه بشأن روسيا، حزب الحرية معروف بعلاقته الوثيقة مع القيادة الروسية، لكن انتقادات زعيمه لدعم الحكومة النمساوية للحرب في أوكرانيا واتهامه إياها بالتسبب في الأزمة الاقتصادية أعطى صدى إيجابياً بين الناخبين الذين يعانون من ارتفاع الأسعار المستمر منذ بداية تلك الحرب.
عارض كيكل العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا واستمرار الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، ويدعو باستمرار وبشكل علني لأن تظل النمسا “محايدة” في التعامل مع الأزمة الأوكرانية الروسية. أيضاً، وجه انتقادات قوية للرئيس النمساوي فان دير بيلن بعد زيارته الأخيرة لكييف ووصفه لروسيا بأنها “قوة استعمارية”. قال الزعيم المتطرف إن الرئيس يشكل “تهديداً للدولة لأنه يعرض حيادية النمسا للخطر”.
هذه المواقف المتطرفة ساهمت في بناء قاعدة شعبية لكيكل بين الناخبين النمساويين الذين يشكون في اللاجئين والمهاجرين… وزادت آراؤه بشأن روسيا من شعبية حزبه بشكل كبير.
التطرف على اختلاف وجوهه وأشكاله
وكما سبقت الإشارة، قبل الحرب في أوكرانيا، كان كيكل قد بدأ بجذب تأييد متزايد برفضه التقيد بإجراءات “كوفيد-19″، ورفضه العلني ارتداء قناع وقائي داخل البرلمان، كما كان يشارك بشكل مستمر في المظاهرات التي استمرت لأشهر ضد القرارات الحكومية لتقييد التجمعات لمنع انتقال العدوى، لام في حينه الحكومة ب”تقييد الحريات”.
رفض كيكل أيضاً الاعتراف بفاعلية اللقاحات ضد الفيروس، ودعا إلى الامتناع عن أخذها مقترحاً بدلاً من ذلك “إيفرميكتين”، وهو دواء للالتهابات الفطرية رغم تحذيرات الأطباء من استخدامه وإمكانية تسببه في حالات تسمم، وهذا ما حدث بالفعل.
دفع هذا النهج المتطرف جميع الأحزاب الأخرى إلى رفض التحالف معه في حكومة ائتلافية، حتى وإن كان الرفض لا يمتد إلى التحالف مع حزبه بحد ذاته، يعني هذا أن الأحزاب الأخرى قد تكون قادرة على تشكيل حكومة دون حزب الحرية، إذا ظل الحزب يصر على أن يتولى كيكل رئاسة الحكومة أو يكون جزءاً منها.
في مثل هذا السيناريو، يمكن أن يستمر حزب الشعب (اليميني الوسطي) في رئاسة الحكومة، إذ حل ثانياً بنسبة 26٪ من التأييد مقابل 37٪ في الانتخابات السابقة. جاء الحزب الديمقراطي الاشتراكي (يسار الوسط) ثالثاً بنسبة 21٪، وهي تقريباً نفس النسبة التي حصل عليها في 2019، على النقيض، تراجعت شعبية حزب “الخضر” (الشريك الحالي في الحكومة الائتلافية) وخسر أكثر من 11 نقطة، مكتفياً ب8٪ فقط من التأييد في الانتخابات الحالية مقارنة ب14٪ في الانتخابات السابقة.
تعليقات