متلازمة الإشعارات - غاية التعليمية
غاية التعليمية يكتُب.. مع التضاعف الأُسي لعلاقاتنا مع النفس ومع الغير بعالميها الواقعي والافتراضي، صار الهاتف المحمول جزءا “اصطبيعا” (من الصناعة و الطبيعة) لا محيد عنه من أعضاء الجسم البشري المعاصر. من فرطِ إدمانه، يبتغي الدماغُ نشوة لحظية من الدوبامين، فيُصدِر عبر سُيالةٍ عصبية لا سبيل لهدوئها مرسوما مُطاعا إلى لجنة الأصابع الخمسة. يُرفع الهاتف المحمولُ بعد قِصر انتظار لِيُبديَ عن مفاتنه اللامتناهية. يستذكر صاحب هذا الجهاز رسالةً بقِيت مُعلقة كان قد قرر أن يرد على مُرسِلها قبل سويعات، فيأخذه إشعار مُضَيِّعٌ إلى وسيط اجتماعي متعطشٍ للانتباه؛ أولُ محتوياتِه ضحايا حرب ضروس هنا، و تاليها ضحايا مقلب سخيف هناك؛ و هكذا دواليك إلى أن يقاطِع بطلَنا إشعارٌ عنيف من صنفٍ مشابه من الوسائط يشفط باله نحو الإجابة على طلب مهم وغير آجل من زوج أو صديق أو مدير. يوضَعُ الهاتفُ جانبا بعد أن اختفت ثلاثٌ و خمسون دقيقة من رأسمال صاحبه العُمْري، ثم ينصرف إلى عملٍ ليس له عنه من غنى. بعد زمن بعيد، يستذكر الرسالةَ المرهونة التي داست عليها الرسائل الطارئة بالنعال وأردتها أسفل سافلات. يتناول الهاتفَ للمرة الحادية عشرة ليرد عليها فيقعُ في نفس الشرك الافتراضي للمرة السبعين. واضح تماما أن هذا العضو الإصطبيعي المستجَد المُقيِّدَ لأيدينا بإحكامٍ قد جاءنا بحالة سلوكية شاذة، دعونا نُطلق عليها اسم ‘متلازمة الإشعارات’ يا سيدات و يا سادة!
اخر الاخبار العاجلة عبر غاية التعليمية أخبار محلية ودولية، وكذلك أخبار الر ياضة وخاصة كرة القدم يلا كورة و يلا شوت اليوم.
على الرغم من اطلاعنا البسيط أو علمنا العميق بما جادت به ولازالت علوم الاجتماع و النفس و السلوك حول مخاطر الشَّرَهِ في استعمال الهاتف، مازلنا نُصر على غضِّ الطرف عنها و إرجاء أخذ الأمر بالجدية اللازمة إلى آجال غير عاجلة. نعم، إدمان الهاتف الجوال صار له اسم خاص، “نومو فوبيا”؛ والكلمة اختصار ل ‘No-mobile-phone phobia’ وتعني الخوف من عدم تواجد الجوال مع صاحبه باستمرار أو عدم القدرة على استخدامه. كما خلصت دراسةٌ من قبل “Virgin Mobile” إلى أن الناس بدون هواتفهم يشعرون بالقلق والانفعال والتشويش. ومِن أقوى خصائص الهاتف المتسببة للنوموفوبيا هي فخُّ سحبِ الشاشة إلى الأسفل لتحديث المحتوى عند الشعور بالملل؛ وهي حركة مستلهمة من إحدى ألعاب الملاهي، تلك التي تُغريك بمِقبض تدفعه إلى الأسفل كل مرة، ويصاحب ذلك رنين الكاش في محاولة منك إلى ترتيب ثلاثة عناصر متشابهة في خط واحد لتكسب دريهمات بعيدة المنال. وهيهات أنى يتأتى لك ذلك ولو بعد مئات الدفعات!
وفي ورشٍ آخر، تَبَين أن المصابين بفرط الحركة وتشتت الانتباه، ADHD (وربما لأكثرُنا من غير المُشخَّصين منهم) هم بالذات الفئة الأكثر عرضة للتبعات النفسية المدمرة لإدمان الجوال بالمقارنة مع أشكال أخرى للإدمان كالتدخين أو الجنس أو تناول الكحول؛ وقد وردت هذه النتائج في ورقة علمية شملت مراهقي كوريا الجنوبية، موطن السامسونج ومرتع النانو تكنولوجي! كما لوحظ أيضا تزايد نسبة المصابين بهذه الاضرابات العصبية لِتُناهِز 60٪ من أطفال ولايات العم سام. وبالتالي، الثابت هو أن إدمان النقال في تزايد، وبشكل تلقائي، خصوصا مع بزوغ نجم جيلٍ مشغولٍ من الوالدين الذين يربِطون رُضعهم وصغارهم أمام شاشة أكبر منهم بأشواط تَعرِض أمام أعينهم العزلاء صورا سريعةَ الإيقاع بأصوات متباينة الحدة. يعْسُرُ على أدمغة هؤلاء المساكين القاصرة مسايرةُ تلك الشرائط الانشطارية، ثم نتعجب ولو بعد حين لماذا تظهر على صغارنا علامات التوتر والانفعال والهيجان لأبسط الأمور ومن سن مبكرة جدا. لربما الأمر شبيه بحصص التخريب العصبي لجواسيس العدو لمَّا يُقيَّدون أمام شاشة عملاقة تُمَرَّر عليها أشكال وأصوات غريبة، سريعة ومجنونة. تُفتَحُ أعين هؤلاء المعذبين غصبا ليُمنعوا من النوم عسى يُجن جنونهم، وكذلك نحن نأسِر أحبائنا ونعبث بعقولهم الصغيرة.
إدمان الهاتف متعلقٌ إلى حد كبير بالغرق في رفع المحتوى تلو الآخر على نفس الوسيط، وأيضا بالقفز بين مختلف المنصات والتطبيقات. يحصل ذلك برعايةٍ خبيثة للإشعارات التي أطلقنا على سليلها السلوكي اللقيط لقب ‘متلازمة الإشعارات’. وللتخفيف من مطبات هذا الاضطراب الجديد، وجب تناول جرعات يومية من حبة مصارحة الذات لتشخيص أعراض النوموفوبيا. ينبغي أولا الانتباه إلى إشارات إدمان التلفون، التي من بينها شكاوى الأقربين من علاقتنا بهذا المصنوع الصغير، وإرجاء إنجاز المهمات العاجلة و المُهمة، وتزايد مدة الاستخدام بشكل أسبوعي، والسقوط المستمر في فخ الخوف من فوات كل جديد ((FOMO، والتعرض لحوادث بسيطة أو عظيمة بسبب استعمال النقال، والاعتقاد الواهي والمتكرر أن الجهاز يرن أو يهتز، وكذا الاتجاه نحو هذا الونيس المزيف كل مرة أحس صاحبه بالوحدة أو الملل.
مجابهة دوامة متلازمة الإشعارات تستلزم قطعا نيةً وعملا لتتبع بعض الخطوات. الأمر يبدأ بالوعي بأن كل الإشعارات محسوسة بطبعها. لحسن الحظ لا نشمها ولا نتذوقها، ولكنها تُهيج أسماعنا وأبصارنا، بل إنها تهتز أيضا لِتَهُز بالَنا. لذا، فهذه بعضٌ من خطواتٍ نقترح على أنفسنا أولا، قبل غيرنا، الثبات عليها:
رصد فخاخ الإشعارات والنوموفوبيا كما ورد في الفقرة السابقة، مع حصرِ عددها وقوة تأثيرها، وضع الهاتف على “وضع التركيز” (Focus Mode) في حال همَّ الشخص بالانشغال بعمل مهم، مع أخد أقساط معقولة من الراحة، التفكير في تقسيم التطبيقات إلى فئتين: منصات مهمة جدا، لكن ذات أقلية؛ وأغلبية من التطبيقات أقل شأنا بكثير ولا تستحق التردد عليها كل حين، إلغاء الإشعارات بجميع أصنافها (إشارات، رنات، اهتزاز) على التطبيقات الثانوية المصنفة ‘غير مهمة’. من المفترض أنه نحن من علينا التوجه إليها بإرادة حرة، لا تأتينا هي ونحن كالعبيد الطيعين فتقاطع سير لحظتنا، تعديل إشعارات تطبيقات الأقلية ذات الطابع الأهم مع إعادة التفكير في صنف كل إشعار. يمكن الاقتصار على الرنة فقط أو على الإشارة فقط أو على الهزاز فقط للتطبيقات المهمة والعاجلة، بما يتيح فقط الرد على المكالمات والإيميلات والرسائل الطارئة الواردة من فئة صغيرة،
عند ورود إشعار جديد، التريث لبرهة قصيرة لأخذ القرار الحاسم: هل الأمر يستأهل تناول الهاتف الآن، أم أن الاستمرار على اللحظة الحالية أفيد وأريح؟ حقا، الرد الكثير من المكالمات يمكن أن ينتظر!
مراجعة أسبوعية لمعدل استخدام النقال والسعي نحو تقليص تلك الدقائق بشكل يومي، الحرص على تخصيص وقت بدون هاتف وتعويضه بوقت أثمن مع العائلة أو الأصدقاء، أو حتى مع النفس.
ختاما، يوما ما قيل أن “المسافة بين إثارة الحيوان ورد فعله تساوي صفر”. بناء على هذه الفكرة المشهودة، صح لنا أن نتساءل هل أضحينا حيوانات باصِمة أليفةً أمام هواتفنا، تُهيِّجنا هي كقطيع هائم متى شاءت، ونأتيها كرقيق مأمورين حيث أشارت؟ فعلا لَامتلاك جهازٍ صغير يصحبنا اليوم كله عادةٌ جديدة على بني البشر. فقد تطور هذا المصنوع من مُحول لاسلكي يُشير إلى ملايين أغنياء القرن العشرين، إلى شاشة إعلانات محمولة تَفْتِكُ بدريهمات فقراء القرن الواحد والعشرين. الشاهد من الحديث هو التوجه نحو هذا الثعبان الأسود الذي يسكن جيوبنا بحذر متزايد وكأننا مقبلين على التداوي بسمه. أول ما نفتح قفل النقال، لزم استحضار التركيز الشديد على المهمة الأولى حتى لا تبلعنا حاوية المحتويات التافهة ونصير نسخا مصورة عن صاحبنا أعلاه الذي لم يَرُد ربما على رسالته إلى اللحظة. وذلك دون التطرق إلى الهاجس الصحي من إضافة أسماءنا وأسماء أقاربنا على لوائح المشخَّصين بمتلازمة الاشعارات في القريب الآجل.
كُنا قد تحدثنا في خبر متلازمة الإشعارات - غاية التعليمية بأستفاضة، ويمكنك تصفح جميع الأخبار المتعلقة بهذا الشأن عبر موقعنا غاية التعليمية الالكتروني.
0 تعليق