حين لامَسْت الميتافيرس لأول مرة .. تحوّل رقمي أم يُوتوبيا افتراضية؟ - غاية التعليمية
غاية التعليمية يكتُب.. حين لامَسْتُ المُسْتقبَل: تجْربَتي الأولى مع الميتافيرس
في اللحظات الأولى من دخولي إلى الميتافيرس (Métavers)، انتابني شعورٌ مزيجٌ من الدّهشة والتّيه، كما لوْ أنني ألجُ عالماً بدون جاذبية، يتلاشى فيه كل إدراك للمكان والزمان. كانت الألوان مُتوهجة، والأبعاد تتداخل في سيمفونية رقمية لا تخضع للمنطق المألوف، كأنني أسير داخل لوحة تنبض بالحركة، مرسومة بضوء لا ظل له. لأول مرة أختبر الحضور في هذا الفضاء الجديد: هل أنا هنا بجسدي أم أنني محضُ انعكاسٍ افتراضيّ لإرادتي؟ كانت الخطوات الأولى مثل الغوص في بحر من الاحتمالات، حين يصبح كل شيء قابلاً للتشكّل وفق الرغبة. شعرتُ للحظة أنني لا أكتشف الميتافيرس بقدر ما يعيد هُوَ اكتشافي، يعيد تعريف إدراكي لذاتي، ولما تعنيه الحدود في عالم يبدو قابلاً للتّجاوز بلا نهاية.
اخر الاخبار العاجلة عبر غاية التعليمية أخبار محلية ودولية، وكذلك أخبار الر ياضة وخاصة كرة القدم يلا كورة و يلا شوت اليوم.
بعد هذا الاكتشاف، اجتاحتْني أحاسيس متضاربة، مزيج من الانبهار والرّيبة، من النشوة والقلق. كان الأمر أشبه بالعُثور على بابٍ سري ظلَّ مُوصدًا لدُهُور، فانفتح فجأة ليكشف عن عالم لم أكن أدرك وجوده. عالمٌ يتجاوز كل ما ألفْته من حدودٍ وقوانين؛ شعرتُ وكأنني أقف على حافة زمنٍ جديد، تتلاشى فيه الحدود بين الحقيقة والوهم، بين الجسد والظل، بين الإدراك والتجربة.
لكن، إلى أين نمضي؟ هل نحن بصدد ولوج عصرٍ يتحرر فيه الإنسان من قيود الملموس أم أننا ننسج قفصًا رقميًا نحبسُ فيه أرواحنا دون أن ندرك ذلك؟ هل نعيد تشكيل الواقع أم أن الواقع هو من يعيدُ تشكيلنا؟ تساؤلاتٌ تتقاذفني، بعضها يوقظ حماسي، وبعضها يزرع في داخلي شكًا عميقًا: هل نحن على مشارف ثورة ستمنحنا عالماً أكثر اتساعًا أم أننا نرسم ملامح يوتوبيا ستنقلب، يومًا ما، إلى متاهة بلا مخرج؟
يُعَدُّ الميتافيرس من أكثر المفاهيم إثارةً للجدل في عالم الرقميات؛ بينما يرى فيه البعض قفزةً نوعيةً نحو مستقبل رقمي متكامل، يعتبره آخرون مجرد يوتوبيا افتراضية لا تعدو كونها امتدادًا للتكنولوجيا الحالية دون إحداث تغيير جوهري، إذ لا يزال يعتمد على منظومات تقنية مألوفة، ويواجه تحديات تقنية وقانونية قد تُقيِّد تحوله إلى فضاء رقمي شامل يغير جذريًا أنماط التفاعل الإنساني والحياة اليومية. صحيح أن الميتافيرس يُبشّر بتحوّل شامل في أنماط الحياة، إذ يعيد تعريف مفاهيم العمل والتعليم والتفاعل الاجتماعي من خلال بيئات تتجاوز حدود الواقع المادي؛ فبفضل تقنيات الواقع الافتراضي، ستصبح الاجتماعات والمؤتمرات والأنشطة الاقتصادية أكثر سلاسة وانفتاحًا، مما يتيح فرصًا جديدة للتواصل غير مقيدة بالعوائق الجغرافية.
لكن في المقابل، يواجه الميتافيرس تحدياتٍ جمّة، لعل أبرزها القيود التقنية والاقتصادية التي قد تحُول دون تعميم التجربة وجعلها في متناول الجميع، فضلًا عن الإشكالات المرتبطة بأخلاقيات الخصوصية والملكية الرقمية، إضافةً إلى مخاطره الاجتماعية المحتملة، مثل تعزيز العزلة وتفاقم الفجوة الرقمية بين المجتمعات القادرة على الولوج إليه، وتلك التي تفتقر إلى الموارد التقنية والمالية اللازمة.
الميتافيرس: تحرر أم انغماس في الوهم؟
يَتَقَاطَعُ الميتافيرس مع مجالات التكنولوجيا، والثقافة، والاقتصاد، والسياسة، ولا يقتصر على كونه امتدادًا للواقع الافتراضي أو مجرد فضاء رقمي ثلاثي الأبعاد، بل يشكّل بيئة تفاعلية متكاملة تتداخل فيها الهويات الرقمية مع الاقتصاد الرقمي والمعرفة الاصطناعية، مما يُعيد صياغة أساليب التفاعل الإنساني داخل الفضاءات الرقمية .وعلى هذا النحو، يقف الميتافيرس عند تخوم سؤال فلسفي حول معنى الحرية وحدود الواقع: هل هو تحررٌ من قيود المألوف أم انغماسٌ في متاهةٍ بلا مخرج؟
تجربتي مع الميتافيرس أبانت لي أنه فضاء بلا جدران، حيث تتلاشى المسافات، وتتحقق الأحلام بمجرد تحريك اليد أو تثبيت النظر على أيقونات افتراضية ليتمكّن المرءُ من إعادة تشكيل العالم من حوله، بل إعادة تشكيل هويته وبإرادته لا بسلطة المجتمع. ما شدّني في هذه التجربة أنّ الفكرة تكتسب هيئة مرئية، ويتجسد الحلم في واقع رقمي يتيح لنا التنقل داخل محاكاةٍ متحررة من قيود الزمن الحقيقي، حين تضعف صلاتنا بالعالم المادي، ويغدو الوجود ضربًا من الوهم، مجرّدًا من حسّيته المعهودة.
حين يُعاد تعريفُ الوُجُود في لمح البصر
لم يعد الوجود مقتصرًا على ما تراه العين أو تلمسه اليد، وإنّما أصبح قابلاً لإعادة التشكيل وفق معادلات رقمية تُحاكي الواقع وتتفوق عليه. في الميتافيرس، تتلاشى الحدود بين الممكن والمحال، ويصبح للعقل سلطة مطلقة في خلق العوالم وصياغة الهويات. نعم، بلمسة اليد ولمح البصر، يعبرُ الإنسان من واقعٍ ماديّ محدود إلى فضاء افتراضي تتلاشى فيه الحدود بين الحقيقة والخيال، ويُعاد فيه تشكيل الكينونة بمنأى عن إكراهات الزمن والجسد.
غادرتُ تجربتي مثقلاً بأسئلةٍ مقلقة (بالنسبة إليّ على الأقل): هل يمثّل هذا الامتداد الرقمي ذروة التحرّر أم منعطفًا نحو الاغتراب؟ هل نوسّع أفق التجربة الإنسانية أم نصنع قفصًا زجاجيًا يأسرنا داخل محاكاةٍ متقنة؟ وهل ما نعيشه هناك امتدادٌ لحياتنا أم انعكاسٌ لوهمٍ نرغبُ في تصديقه؟ هل نبتكر واقعًا جديدًا يحرّرنا من قيودنا التقليدية، أم نهرب إلى نسخةٍ مُحسّنة من الوَهْم خوفًا من مواجهة الحقيقة؟
لا شك أن الميتافيرس يعيد تشكيل العالم وفق إرادة الإنسان، متجاوزًا قوانين الطبيعة، ليغدو الخيال أكثر واقعية من الواقع نفسه. في هذا الفضاء اللاّمحدود، تزول الفواصل بين الزمان والمكان، فتتحول الرغبات إلى كيانات رقمية تتجسد بمجرد برمجتها، متحررة من قيود الواقع الفيزيائي. غير أنها، رغم وهم الاستقلال، تبقى محكومة بخوارزميات دقيقة ترسم حدود إمكاناتها وتوجّه مساراتها، مما يجعلها امتدادًا لذكاء مصطنع يحاكي الواقع، دون أن ينفصل عنه تمامًا.
بين المادي والافتراضي: أين تبدأ الحياة وأين تنتهي؟
في عصرٍ تتداخل فيه الحقيقة بالوهم، لم تعد الحياة تُختزل في نبض القلب أو حضور الجسد، وإنما امتدّت إلى فضاءات رقمية تُعيد رسم الهويات، حين تهدم الحدود بين الممكن والمستحيل. في الميتافيرس، أدركتُ أن الإنسان يمكن أن يوجد بلا جسد، يتكلم بلا صوت، ويتحرك بلا قيود، وكأن الوجود تحرر من ماديته ليُعاد تشكيله في صورٍ افتراضية تُعيد تعريف معنى الحياة ذاته.
لكن إذا كان الوجود الرقمي يوسّع آفاق الإدراك والتجربة، فإلى أي مدى يمكن اعتباره امتدادًا للحياة الحقيقية؟ هل هو تعميقٌ لوجود الإنسان أم انحرافٌ عنه؟ أَنخلقُ بديلاً لحياتنا أم أننا ننسحب تدريجيًا من الواقع الذي نألفه؟
الميتافيرس: جغرافيا رقمية جديدة
ليس الميتافيرس مجرد فضاء رقمي ثلاثي الأبعاد، إنه فضلا عن ذلك نظام متكامل يعيد ابتكار التفاعل الرقمي بطرق تتجاوز التقنيات التي تتيحها الشبكات الرقمية والتي تعتمد على جلسات محددة تنتهي بإغلاق هذا التطبيق أو ذاك. بهذا المعنى، يعدّ الميتافريس بيئة قائمة بذاتها، وعالما رقميا مستقلا عن الزمن والمكان. فإذا كان الإنترنت التقليدي يقتصر على واجهات ثنائية الأبعاد من نصوص وصور ومقاطع فيديو، فإن الميتافيرس يرتقي بالتّجربة الرّقمية إلى مُستوى أكثر شمُولًا وحسّية، إذْ يتيح للمستخدم الانغماس في بيئة رقمية متكاملة من خلال صورة رمزية (Avatar) تتفاعلُ مع العناصر الافتراضية وكأنها كائنات مادية؛ وبفضل هذا يصبح بوسعه المشي، والتحدث، والعمل، واللعب داخل عالم رقمي يحيط بكل الحواس في تجربة تلامس الواقع وتحاكيه، بل وتتجاوزه أيضا.
شرح لي التقنيّ الذي رافقني في هذه التجربة أن الميتافيرس ليس عالمًا منفصلًا عن الواقع، بل إنه فضاء يجمع بين الواقع المعزز والواقع الافتراضي، مما يمكّن المستخدمين من التفاعل مع عناصر رقمية ضمن بيئتهم الحقيقية. على سبيل المثال، يمكن لمؤسسة تجارية أن تنظم اجتماعات عمل يحضرها أفراد من مختلف أنحاء العالم عبر الميتافيرس، حيث يشعر المشاركون أنهم يجلسون في قاعة واحدة رغم تباعدهم الجغرافي؛ وأضاف موضحا ومعلّقا أن الميتافيرس يسمح للأفراد بتبني هويات متعددة والتحرر من قيود الهوية الفيزيائية، ثم ختم شرحه مُبتسما: هذا تحول يمكنه إعادة تشكيل مفهوم الانتماء الاجتماعي برمّته بخلق مجتمعات رقمية لا بناءً على الجغرافيا أو الثقافة، بل وفقًا للاهتمامات والتفاعلات داخل هذا الفضاء الافتراضي.
بين اليوتوبيا الرقمية والمخاوف الواقعية
التحدي الأساسي الذي يواجه الميتافيرس ليس تقنيًا فحسب، بل هو في جوهره فلسفي واجتماعي. فبين من يراه ثورة رقمية تحرّر الإنسان من قيوده المادية، ومن يحذّر من تحوّله إلى أداة للهيمنة الرقمية، يظل سؤال جوهري مطروحًا: هل نحن بصدد إعادة تعريف الوجود الإنساني في العصر الرقمي أم أننا أمام وهم تقني يعمّق العزلة ويكرّس الاحتكار؟
يتجلى الوجود في التجربة والتفاعل مع العالم، فيما الرّقمنة تفرز فضاءً جديدًا يمكّن الإنسان من تجاوز قيود المكان والزمان، مُوسِّعًا أفق تجربته إلى مدى غير مسبوق .بعبارة أخرى، نحن اليوم أمام تحوّل جوهري في إدراكنا للزمن، والكينونة، والآخر. فلم يعد التواصل مجرد وسيلة تربط بين أفراد متباعدين، بل أصبح فضاءً مستقلاً يُعاد فيه تشكيل العلاقات الإنسانية، مما أدى إلى نشوء مفاهيم جديدة مثل “الذات الرقمية”. لم يعد الإنسان محصورًا في هوية واحدة ثابتة، وإنما بات يتقمّص هويات متعددة، تتفاعل بطرق تتجاوز النموذج التقليدي للهوية المستقرة، وتعيد تعريف معنى الوجود في العصر الرقمي.
في مقابل هذا الفهم، يمكن القول إننا لا نعيش إعادة تعريف حقيقية للوجود، بقدر ما نخضع لاستبدال تدريجي للواقع بعالم رقمي لا يعكسُ سوى أوهام تكنولوجية تُبنى وفق منطق الاحتكار والسّيطرة. فالفضاءات الرقمية ليست بالضرورة محايدة، لأنها تتشكل من خوارزميات مُوجّهة، تحصر الأفراد بين أسوار معرفية، وتعيد تشكيل وعيهم وفق مصالح اقتصادية وتقنية محددة.
هنا يكمن خطر فلسفي يتجلى من خلال هذا السؤال: هل نمتلك بالفعل حرية تشكيل ذواتنا في الفضاء الرقمي أم أننا نخضع لمنظومة تحدد لنا كيف نتفاعل، وماذا نرى، بل وحتى كيف نفكر؟ أعتبر هذا السؤال مدخلا ممكنا لنقد فكرة “التطور التكنولوجي”، بموجبه تكون الرقمنة وسيلة لتكريس عزلة الفرد عن الواقع، وإخضاعه لمنطق التحكم الرأسمالي الذي يعيد صياغة رغباته وهويته بطرق غير واعية.
لا يمكن اختزال العصر الرقمي في ثنائية مبسّطة بين إعادة تعريف الوجود والوهم التقني، إذ نحن إزاء مفارقة جوهرية: فمن جهة، تفتح الرقمنة آفاقًا غير مسبوقة لتوسيع الإدراك وإعادة تشكيل علاقتنا بالواقع، ومن جهة أخرى، ترسّخ منظومة تحكّم خفية تجعل تجربتنا الرقمية مشروطة وموجّهة ضمن حدود لا ندرك أبعادها بالكامل.
حينَ يعيدُ الميتافيرس تشكيلَ دهْشة المتَاحف
اكتشفتُ الميتافيرس خلال زيارتي إلى عاصمة الأنوار، حيث لا تزال باريس تحتفظ بهالتها الفريدة، فتجعل من متاحفها فضاءات لحوار صامت بين الإنسان وزمنه، بين ريشة الرسام ودهشة المتلقي. لكنني وجدتُ نفسي أمام تجربة مختلفة؛ إذ بدا لي أن الميتافيرس يزاحم تلك الصروح الفنية العريقة، بإعادة تشكيل العلاقة بين الفن والخيال، ليمنح الإبداع بُعدًا جديدًا يتجاوز حدود اللوحة والإطار.
هناك، في إحدى القاعات الغارقة في الضوء الأزرق، ارتديتُ نظارات الواقع الافتراضي، فإذا بي أعبر بوابة غير مرئية نحو عوالم من الجمال لم تطأها قدماي من قبل. لم تعد لوحة الموناليزا ليوناردو دافنشي حبيسة جُدران متحف اللّوفر، ها هي أمامي بألوانها المتوهجة تفيض بسحرها الغامض، كأنها تنبض بالحياة، تحدّق إليّ بعينيها العميقتين، وتهمس بأسرار قرون خلت فتجعل الزمن ينحني لجَلال حُضورها؛ كما لم تعد تماثيل رُودَان، أحد رواد فن النحت خلال القرن التاسع عشر، مجرد كتل صامتة من الرخام، بل باتت تتجاوب مع حركاتي، وكأن الفن قد استعاد صوته المفقود عبر وسائط جديدة؛ فهل نحن أمام انبعاث جديد للفن أم نشهد غربته في عالم من الأبعاد الاصطناعية؟ هل يفتح الميتافيرس نوافذ جديدة على الإبداع أم أنه يضعنا في مواجهة نسخة متكلّفة من الجمال؟
بين الحيرة والانبهار، أدركت أن الفن، كما الزّمن، لا يتوقف، بل يجد دائمًا وسائله الخاصة لمخاطبة الروح، سواء بين جدران اللّوفر، أو في فضاء رقمي لا حدود له.
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
كُنا قد تحدثنا في خبر حين لامَسْت الميتافيرس لأول مرة .. تحوّل رقمي أم يُوتوبيا افتراضية؟ - غاية التعليمية بأستفاضة، ويمكنك تصفح جميع الأخبار المتعلقة بهذا الشأن عبر موقعنا غاية التعليمية الالكتروني.
0 تعليق