بيرم التونسي... فيلسوف الشعر الغنائي (2 - 3) - غاية التعليمية

0 تعليق ارسل طباعة

بيرم التونسي... فيلسوف الشعر الغنائي (2 - 3) - غاية التعليمية

غاية التعليمية يكتُب.. لعبت المصادفة دوراً كبيراً في حياة بيرم التونسي، وجذبته من قسوة حياته المبكرة إلى عالم الشعر والأساطير والحكايات الشعبية، وتفتحت موهبة الشاب الصغير، ووجد ضالته في كتابة الزجل، وانطلقت سهام إبداعه في وجه الاحتلال البريطاني، وانتقد بأسلوبه الساخر السلبيات الاجتماعية، وتناغم قلمه الثائر مع فيض من المشاعر الرومانسية، وقلب ينبض بالأمل، وتوالت الرحلة... تلقى الصبي بيرم صدمات موجعة، تركت أثرها الدامي في نفسه، وحدثت في عام خروجه من الكُتَّاب، وتحرره من قسوة معلمه الشيخ جادالله، والتحاقه بالمعهد الديني، وهوت الصدمة الأولى بوفاة أخته بعد مولدها بثلاثة أيام، والحادث الثاني جاء عن طريق المصادفة، حينما اكتشفت أمه أن زوجها تزوّج عليها سراً من فنانة كانت تتردد على دكانه. وكان لهاتين الحادثتين أثر كبير في نفس الصبي الصغير، وبدأت رحلته مع الشقاء والتعاسة، وحرمته من الفرح والأمان، وتملّكه الحزن الشديد، وصار انطوائياً، ويجلس طوال الوقت صامتاً، ولا يرغب في اللعب مع أقرانه في الحي، ويكتفي بمراقبتهم بعينين تلتمعان بدموع تسيل على وجنتيه. واستبد به القلق من قادم مجهول، ولا يدري سبيلًا للخروج من هذه البئر السحيقة.

اخر الاخبار العاجلة عبر غاية التعليمية أخبار محلية ودولية، وكذلك أخبار الر ياضة وخاصة كرة القدم يلا كورة و يلا شوت اليوم.

وهوت عاصفة أشد وطأة، برحيل والده الشيح محمد الحريري، وتضاعف شعور الصبي بالحزن والتعاسة المبكرة، ولم يترك الأب الراحل للأم والأخت والابن سوى المنزل الذي يعيشون فيه، واستولت زوجة أبيه على ثروته لحظة موته، وقُدرت بخمسة ألاف جنيه ذهبا، واستولى أبناء عمه على تجارة أبيه.

وفي خضم تلك الدوامة من الأحداث الدراماتيكية، انقطع بيرم عن الدراسة، وعمره لا يتجاوز الثانية عشرة، وأصبح في مفترق طرق، بين التشرد وتحمل مسؤولية أسرته، واضطر لأن يعمل صبيًا في محل بقالة، إلا أنه لم يستمر في هذا العمل طويلًا، وطرده صاحب المحل، ووقتها تزوجت أمه، والتحق بيرم بالعمل مع زوج والدته في عمله الشاق بصناعة هوادج الجِمال، واكتملت دائرة أحزانه في عام 1910 برحيل أمه.

وفي مذكراته روى بيرم تفاصيل حياته البائسة بعد رحيل أمه، قائلًا: «ابتدأت حياة من الضياع، فقد انتقلت للإقامة مع أختي لأبي المتزوجة من خالي، وكانت تعُد عليّ الأنفاس والحركات والسكنات وتضيق ذرعًا بأية خدمة تؤديها لي».

زوجة أبيه تستولي على 5 آلاف جنيه ذهباً بعد رحيله

وانطبع هذا الشعور بالغُبن على شخصية بيرم في صباه، لكنه قاوم تلك الانكسارات المتتالية، ووجد ضالته في الفن، وبدأ في كتابة أولى محاولاته الشعرية، وأصبح القلم والورقة أقرب إليه من أي شيء آخر، وتفتح وعيه مبكرًا، وزاد شغفه بالقراءة في شتى مجالات المعرفة، واجتمعت لديه خبرات متراكمة، وبمرور الوقت التأمت جراحه، وتحولت إلى ندوب لا يراها أحد سواه.

بحث بيرم عن الاستقرار بعد موجات متلاطمة من التعاسة، واستطاع أن يؤجر محل بقالة، وكلف شقيقته الكبرى بالبحث له عن زوجة من أسرة طيبة، وتزوج في عمر السابعة عشرة من ابنة تاجر عِطارة، تُدعى «نبوية» وعاش معها في غرفة ببيت أبيها، ولكن تجارته كسدت تحت وطأة الضرائب الباهظة، التي فرضها الاحتلال البريطاني ـ آنذاك ـ فأغلق المحل رغمًا عنه، إلا أنه لم يستسلم لذلك، فباع المنزل الذي تركه له أبوه، وعمل في تجارة السمن من ثمن المنزل، واشترى بباقي النقود بيتًا صغيرًا في حي الأنفوشي بمدينة الإسكندرية.

وأنجب بيرم من زوجته «محمد ونجيبة»، وبعد ست سنوات زواج رحلت الزوجة، وداهمه الحزن مجددًا، وحار الأب مع الطفلين، ولم يعرف كيف يعاملهما، ويلبي طلباتهما في المنزل، واضطر بيرم للزواج مرة أخرى بعد 17 يومًا من موت زوجته الأولى، وأنجب من زوجته الثانية «صبرية ومحي الدين وأيمن».

سنوات المنفى

كانت حياة بيرم التونسي مليئة بالغرائب والعجائب، لكن قصته مع المنافي، كانت الأكثر إثارة، وبدأت بكتابته سلسلة من القصائد الزجلية، هاجم فيها الملك فؤاد وأسرته والاحتلال البريطاني، وصدر الأمر بإبعاد الشاعر المشاغب من مصر، ونفيه إلى وطن أجداده في تونس يوم 25 أغسطس عام 1920، وكان سبب الإبعاد غضب الملك فؤاد عليه بسبب قصيدته «البامية الملوكي والقرع السلطاني»، وبتوصية من زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد، الذي انتقده بيرم في مقال تحت عنوان «لعنة الله على المحافظ» وكان وقتذاك محافظًا للقاهرة.

وفور وصوله إلى تونس، بحث بيرم عن أهل أبيه، لكنهم رفضوا مساعدته، وحاول الاتصال ببعض الكُتّاب التونسيين للاشتراك معهم في إصدار صحيفة، لكن الإدارة التونسية كانت تضعه تحت المراقبة منذ وصوله، باعتباره مشاغبًا، وسرت أخباره بين العامة والمثقفين على حد سواء، وأنه ينتمي إلى عائلة أصلها تركي، وأحد الثائرين في مصر ضد الاحتلال البريطاني.

الشاعر المنفي يفقد لقب «التونسي» في موطن أجداده

وفقد الشاعر المنفي لقب «التونسي» في موطن أجداده، وترسخ في الأذهان أنه تركي، وروى بيرم أنه حينما كان يعود من جولته اليومية إلى الفندق الذي ينزل فيه يقول مديره للخدم: «أعطوا التركي مفتاح غرفته ليرقد».

وأخفقت محاولات بيرم في ممارسة أي نشاط صحافي أو سياسي طوال فترة إقامته، وسمحوا له بالأعمال التي تحتاج قوة بدنية، فاشتغل في بعض المحلات التجارية، ثم اكتشف أن البوليس بدأ يضيّق عليه الخناق، ويتتبعه في كل مكان يذهب إليه، فقرر الرحيل من تونس بعد أربعة أشهر فقط.

الرحيل إلى فرنسا

وسافر بيرم على باخرة إلى فرنسا، ووصل إلى ميناء مارسيليا، ومكث هناك ثلاثة أيام، انتقل بعدها إلى باريس، شعر فيها بقسوة الغربة، وعانى من الصقيع وشدة البرد، واكتشف أن ذلك لا يعطل الناس عن الاستيقاظ مبكرين والتوجه إلى أعمالهم، فكتب قصيدة يسجل فيها إعجابه بنشاط الشعب الفرنسي، ويبث شجونه عن وطنه المحتل في ذاك الوقت، تقول أبياتها: «الفجر نايم وأهلك يا باريس صاحيين، معمرين الطريق داخلين على خارجين، ومنورين الظلام راكبين على ماشيين، بنات بتجري وياما للبنات أشغال، وعيال تروح المدارس في الحقيقة رجال، ورجال ولكن على كل الرجال أبطال، ولسة حامد وعيشة وإسماعين نايمين».

أخفق الشاعر المنفي في الحصول على عمل في باريس، ونصحه بعض المغتربين بالسفر إلى مدينة ليون، ووصفها بيرم في مذكراته، بقوله: «سعيت بنفسي إلى مدينة صناعة الصلب في فرنسا، تلك المدينة التي لأهلها قلوب مثل الصلب لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وهي أيضًا مدينة مشهورة عند الفرنسيين أنفسهم بأنها مدينة معتمة... وصلت لهذه المدينة في عز الشتاء، ولأن جيوبي كانت شبه خاوية، فقد أخذت المسألة من أقصر طرقها، وذهبت إلى أفقر أحيائها، واستأجرت فوق سطوح أحد المنازل شيئًا يسمونه حجرة، كانت من الخشب الذي حولته مياه الأمطار إلى مكان له رائحة من نوع خاص، إنها رائحة قريبة من العفن، وداخل تلك الثلاجة كنت أنام الليالي القاسية البرودة، وفي النهار كنت أسعى مع الفجر في البحث عن عمل قبل أن يتبخر آخر مليم في جيبي».

«البامية الملوكي» تتسبب في نفي الشاعر المشاغب خارج مصر

وعاش بيرم في ليون، تلاحقه الكوابيس، وقسوة الاغتراب، وعمل في أحد مصانع الحديد والصلب، لكنه تركه بعد أن سقطت على فخذه قطعة حديد ضخمة، واستطاع أن يحصل على شهادة حُسن سير وسلوك، ولكونه غريبًا لم يستطع الحصول على عمل آخر، فهي مدينة لا تحبذ اشتغال الأجانب، وبات يطارده شبح الجوع والبطالة.

وروى بيرم تجربته مع الجوع: «كنت أثناء الجوع أمر بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين، كنت في البداية أتصوّر الأشياء واستعرضها في ذاكرتي، هذا طبق فول مدمّس، وهذه منجاية مستوية، وهذه يا ربي رائحة بُفتيك تنبعث من عند الجيران، ثم أصل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي، أثناءها تتلوى أمعائي، ويبدأ المغص، ويطوف الظلام حول عيني، وأتمنى من الله أن ينقلني إلى الآخرة فهي أفضل من هذا العذاب الأليم، وأخيرًا تبدأ مرحلة الذهول وخفة العقل، فأطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيني، وتحدثني نفسي أن أكل قطنه أو أبحث عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت، وكان لا ينقذني من تلك الحال سوى معجزات، عندما أنهض كالمجنون أبحث في كل أركان الحجرة عن أي شيء فأعثر بالصدفة على كسرة خبز أو بصلة مهجورة».

الوظيفة القاتلة

وكان بيرم يتمتع بقوة جسمانية، حمته من الموت جوعًا، وبعد معاناة عثر على وظيفة في شركة المنتجات الكيماوية العالمية، لكن هذا العمل يحتاج إلى قدرة على تحمل الغازات الخانقة، ومقابل تلك الوظيفة القاتلة، منحوه 20 فرنكًا في اليوم. وذاق مرارة الشقاء اليومي، وساءت صحته إلى حد كبير، وأصيب بأمراض الرئتين، وسيطرت عليه الكآبة، وضلت الابتسامة طريقها إلى وجهه.

كُنا قد تحدثنا في خبر بيرم التونسي... فيلسوف الشعر الغنائي (2 - 3) - غاية التعليمية بأستفاضة، ويمكنك تصفح جميع الأخبار المتعلقة بهذا الشأن عبر موقعنا غاية التعليمية الالكتروني.

جميلة الهادي
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق