"ألف يوم ويوم".. سيمون بيتون تحكي الحاج إدمون عمران المليح - غاية التعليمية
غاية التعليمية يكتُب.. تتبع لمحطات عيش وكتابة وصدح الكاتب المغربي البارز إدمون عمران المليح يحضر في أحدث الأفلام الوثائقية للمخرجة المغربية وليدة العاصمة الرباط سيمون بيتون، التي سبق أن أخرجت وثائقيات حول تاريخ فلسطين والموسيقى العربية والشاعر محمود درويش وحياة المعارض المهدي بنبركة والمسلمين حامي المقابر اليهودية بالمغرب.
اخر الاخبار العاجلة عبر غاية التعليمية أخبار محلية ودولية، وكذلك أخبار الر ياضة وخاصة كرة القدم يلا كورة و يلا شوت اليوم.
الحاج .. المغرب وفلسطين
“ألف يوم ويوم: الحاج إدموند”، فيلم يفصح عنوانه عن طبيعة الوثائقي، ففي الجزء الأول من التسمية قرب من عنوان رواية للمليح “ألف عام بيوم واحد” التي من بين مواضيعها الاجتثاث الذي قاد كثيرا من يهود البلاد إلى أرض محتلّة “لا يعرفون عنها أي شيء خارج الدعاية الصهيونية، تاركين في الوقت ذاته من خلفهم أراضيهم وتقاليدهم ومقابرهم وأولياءَهم… مع أنه لم يكن هناك أي خطر مباشر، سواء في الحاضر أو في المستقبل، يهدّد كيانهم”، كما ذكر كتاب يحيى بن الوليد حول “مرجعية إدمون عمران المْليح”.
أما الجزء الثاني من العنوان فـ”الحاج إدموند” وهو لقب أحبه، وكان يرى في مخاطبة بعض جيرانه ومن يصادقونه ويقدرونه به، انعكاسا لجو من “الاعتراف والمحبة” يعرفه المغرب، ويُوَقرُ فيه الناس كبير السن “ويعطونَه مكانا”، وفق ما قاله في برنامج “مشارف” الذي قدمه الإعلامي ياسين عدنان في التلفزة المغربية.
عمران الذي ولد سنة 1917 بآسفي، باسم “إدمون عمرامْ المليح” أو “إدمون عمران المالح”، لعائلة بورجوازية مدينية لم تكن تقطن بـ”الملاح” الخاص بالمنتمِين المغاربة إلى الديانة اليهودية، عاش مغربا، ذا تركيبة اجتماعية وثقافية متنوعة استمرت لأزيد من ألف سنة، قبل قطائع القرن العشرين، التي كان أبرزها الاستعمار ثم إعلان قيام إسرائيل على أنقاض فلسطين.
في الوثائقي، اعتبرت الدبلوماسية الفلسطينية ليلى شهيد، زوجة الأديب والناقد المغربي محمد برادة، أن هذا المعطى مهم جدا لفهم عمق تضامن عمران مع فلسطين: المأساة الفلسطينية طبعا، لكن أيضا البعد الشخصي؛ وهو تسبب الصهيونية في اجتثاث اليهودية المغربية من المغرب كتاريخ وحياة، ودفع مغاربة إلى ارتكاب مآس في حق شعب آخر.
لقد عاش عمران المليح، إذن، مسؤولية التضامن مع القضية الفلسطينية بوصفها قضية مغربية، ضحيتها المباشرة الشعب والوطن الفلسطينيان، ومن ضحاياها كذلك المجتمع المغربي، الذي فقد جزءا لا يتجزأ من تركيبته الثقافية والتاريخية، وأُقحمت ساكنته في حسابات أوروبية لم تكن له علاقة بها.
هذه العلاقة مع القضية الفلسطينية تحملها أيضا مخرجة الوثائقي المغربية، التي تؤكد دائما على تركيب شخصيتها العربية اليهودية، دون تراتب. وسبق أن صورتها أفلامٌ لها؛ من بينها وثائقي ‘جدار’ حول الفصل العنصري الإسرائيلي الذي تجسد جدارا، فيشاهد المتفرج المغربي فيلما حول مأساة فلسطين وجدار الفصل العنصري، ليُصدم بأن الطفلة المتحدثة في مطلع الفيلم بالعبرية، التي تُعرف العربية بلغة الآخر العدو، ابنة أم تعرف العربية: مغربية. لكنها لغةٌ لا تحدثها بها أمها، فلا تسطع بالتالي فك معناها، إلا التقاطَ نبر يعني لها دنو الآخر العدو.
هذا الفصام الذي خلقته إسرائيل من بين من مثله أيضا الشاعر محمد بلمو في مذكرات “5 أيام في فلسطين المحتلة”: “ما إن وقفنا قبالة الجنود الثلاثة حتى بادر أحدهم بتحيتنا بلهجة مغربية خالصة قائلا: تبارك الله عليكم! كان ذلك مفاجئا لنا، لكننا فهمنا بسرعة أنه يهودي مغربي، فأجبناه في نفس الوقت: الله يبارك فيك، ثم سأله تافنوت: الأخ مغربي؟ من أي منطقة؟ نظر إلينا ثم إلى الجندي الأشقر الذي كان يتابع الموقف، دون أن يعرف فحوى الحديث الذي انطلق بدون مقدمات… صمت قليلا كمن أحس بأنه تسرع في حديثه معنا، ثم قال بلهجة تنم عن رغبته في التخلص من هذه الورطة ورفع الحرج عنه أمام زميله الذي كان يتابع المشهد بارتياب: أنا مغربي… من الشلوح. من الأطلس المتوسط؟ سألتُه، لكنه لم يرد. كما لو أنه لم يسمع السؤال. والحقيقة أنه كبت تلقائيته الأولى كمن أدرك أن موقعه الجديد كإسرائيلي وجندي في جيش العدو لا يسمحان له بالتمادي في الحديث مع إخوانه المغاربة، أو مع أشباح ماضيه على الأصح، حيث تتراجع الطفولة إلى أعمق نقطة في الذاكرة، وهي تئن تحت الطبقات الثقيلة للهوية الجديدة”.
عمران… القِبلة
سيمون بيتون، في فيلم “الحاج إدمون”، لم تعتمد على الشهادات فقط؛ بل أنطقت كتابات الحاج الشيوعي ابن عائلة بورجوازية، كما أنطقت المكان، فعادت إلى بيت العائلة الكبيرة بالصويرة حيث لم يكن اليهود أقلية، وبيت مسقط الرأس بآسفي المغلق المهمل الذي لا سبيل لدخوله إلا اختلاسا للنظر عبر شباك من عل، بل وحتى غرفة فندق كان يعتاد حجزها في الصويرة، وبيوتات أصدقائه، وبيوت أخرى دخلها المشاهد مباشرة، أو عبر من لقوه فيها.
لكن الفيلم لا يختزل إدمون عمران في بعد واحد، فيجد المشاهد الحاج إنسانا حيويا، بين الأدب، السياسة، المنفى الاختياري، القضية الفلسطينية، الطبخ، الصداقة، الحوار، تحليل الشخصية المغربية اليهودية وصدمة الاستعمار الأوروبي، النقد الفني الذي كان لا يقدر خطه إلا بعد عيش الفن وتجاذب أطراف الحديث والحياة مع مبدعه.
ومن بين ما يقدمه الوثائقي مغرب ولى، حيث التقى أستاذان لمادة الفلسفة، مغربي يهودي وفرنسية كاثوليكية بالدار البيضاء، ورافقا بعضهما إلى آخر العمر، ولو اضطرا إلى المغادرة بعدما اعتُقل عمران من منزله وأُوذِي مُستنطَقا في سنة عيشه 48، ومحتجين آخرين بعد أحداث 23 مارس 1965، رغم مغادرته الحزب والسياسة والشيوعية، هو الذي كان قياديا شيوعيا أيام الاستعمار مطالبا بالاستقلال عن فرنسا. دون أن يمنع ذلك زيارتهما البلد مع رجوع دائم للمنفى الاختياري، قبل رحيل رفيقة العمر سنتين قُبيل متم القرن العشرين التي كانت أُنسَه في فرنسا (فرَنساهُ ربما)، واعتلاء ملك جديد عرش المغرب (1999)، مما يسر العودة الدائمة.
شق العيش الفرنسي لم يُنسَ في الوثائقي، ولو أخذت السنوات العشر الأخيرة من عمر “الحاج” مساحة أكبر من هذه السنوات الثلاثين؛ فيحكي الوثائقي قصة الشقة المزار للمغاربة زوار باريس، والدارجة المغربية في بعض الحوارات، والكتابة التي اختمرت في صاحبها ستة عقود كاملة قبل أن تبلغ القارئ، ويحكي أيضا سكينة قرية أبَوي زوجته ماري سيسيل، التي صار في صورة بها، في مرحلة من حياته توثقها إحدى الصور، شبيها بفيلسوفها المفضل فالتر بنيامين.
و”ما حب الديار شغفن قلبي.. ولكن حب من سكن الديارا!”؛ فعمران، في الحقيقة، كان في حد ذاته قبلة للكثير من الكتاب والفنانين، سواء في فرنسا أو المغرب، زمن المنفى الاختياري وبعد العودة إلى مسقط الرأس والقلب، كما تحكي سيمون بيتون بصوتها، حول تعرفها على إدمون في باريس، والزيارات بين فرنسا والمغرب.
في هذا الفيلم لا يوجد حكي نمطي لمسار “الحاج”؛ بل تتدخل المخرجة التي عاشت، كما عاش شاهِدوا الوثائقي، جزءا من عمر إدمون. فتكشف مثلا أنه كان يعتبرها “جاسوسته” حول ما يقع بإسرائيل وحياة الجالية المغربية بها. علما أنها، كما ذكرت في حوارات سابقة، رحلت إليها طفلة مع عائلتها، للم الشمل مع أخواتها اللائي يكبرنها وحصلن على منح للدراسة بها، فكان ما كان من “الاجتثاث”، ولو استمرت العائلة الصغيرة بثمن فقد مسقط الرأس، وفقد الأب عمله الكريم صائغا للذهب، ليعمل في معمل بالأراضي الفلسطينية المحتلة.
في هذا الفيلم تتحسر سيمون عن رحيل سند لها في الدفاع عن قضية فلسطين، وتتساءل عن المسِيرِ الذي ينبغي أن تستمر فيه من غير هذا الرفيق واضح الموقف والنبر.
ورغم أن وثائقي “ألف يوم ويوم” لا يقتصر على جانب الدفاع عن القضية الفلسطينية في حياة إدمون الأديب، والصحافي المتواري خلف اسم “عيسى العبدي” في الصحافة الشيوعية قبل الاستقلال، والناقد الفني، والطباخ؛ فإن بيتون، في حوار مع موقع القناة الأولى الرسمية بالمغرب (2024)، تحدثت عن توضيب عملِها هذا والحرب الإسرائيلية على غزة الفلسطينية ولبنان قائمة، مما أثر فيه، وحمله مسؤولية: “أحسست بأنه من المهم جدا، خاصة الآن، هذا الصوت، صوت يهودي مغربي لا يرى نفسه في إسرائيل، مثلي. لقول إن يهودا مثلنا يؤكدون بقوة أن ما تجريه الآن إسرائيل على الفلسطينيين واللبنانيين ليس باسمنا، رغم ادعائهم، في محاولة للاستيلاء على هويتنا وإرثنا. ولم يتوقف إدمون على قول هذا؛ وهذا صوت مهم للفيلم كان سيكون مهما على أي حال، لكن الآن له أهمية أكبر، وأنا سعيدة أنه انتهى وسيشاهده خاصة شباب مغاربة في هذه الفترة”.
وفي حوار قبل العرض الأول بمراكش، حين كان القصف الإسرائيلي على غزة ولبنان مستمرا، عرفت سيمون بيتون الوثائقي بأنه يتمحور حول “كاتب يهودي مغربي، يسمى إدمون عمران المليح، الذي عرفته، وكان صديقا، وكان من هؤلاء اليهود العرب، التقدميين؛ فهو قيادي سابق في الحزب الشيوعي المغربي، كان دائما معارضا للصهيونية، ولم يضع قدمه يوما في إسرائيل، وكان منخرطا كثيرا من أجل القضية الفلسطينية، وهذا الفيلم مخصص له”.
إدمون المتعدد
تدخل في الوثائقي شاهدون على مراحل متعددة من حياة عمران المليح، واهتماماته؛ فمنهم من تحدث عن المقاوم ضد الاستعمار إلى جانب باقي المغاربة الفلاحين، ومنهم من تحدث عن الشيوعي والشيوعي السابق، ومنهم من استحضر إدمون المعتقل، أو اللاجئ للخارج مطلق السياسة، كما حضرت شهادات عن إدمون محب الفنون، والطباخ محب الذوق.
كما حضر عمران “اليهودي المسلم”! على لسان مساعدته في منزله بالرباط، الذي انتقل إليه بعد وفاة زوجته ماري سيسيل؛ فقالت “لْكْبيرة” عندما لم تجد ما تشرح به مغربيته وقيمه الشيوعية التي جعلته يعامل الجميع بمساواة، وعيشه “العيد الكبير” منذ لقائه بها وحتى الرحيل بمحبة في بيت عائلتها، إلا وصف: هو “يهودي مسلم. مسلم يهودي. وأحسن من المسلمين!”.
من بين القضايا التي يثيرها الوثائقي غياب مؤلفات إدمون المليح من المكتبات، إلا بضع روايات جيب، كما يطرح نموذج مزار “خُلق” وصار ضريحا، بلا قبر، يزوره سنويا مهتمون بإدمون، ولو أن هذا الأمر قد أثار حفيظة أحد أصدقائه، الروائي عبد الكريم الجويطي الذي ذكر في أحدث كتبه “إدمون عمران المليح مُربي الكلمات” (2024): “أتعرف بأنك تحولت إلى مزار في مكان ما، تشعل من حول صورتك الشموع، ويأتي من حاربتهم طيلة حياتك ليروك بلا صوت ولا أظافر”.
إدمون المتشبث بالحياة والقول والكتابة وعالم الإبداع والنقاش المستمر الذي أحاط نفسه به إلى آخر حياته، كان محبا صادحا برأيه بـ”صوت وأظافر”، ومتشبثا بالأمل الذي لم يودعه رغم تقلبات الحياة، ويتتبعه الوثائقي لا عبر الشهادات والنصوص والأمكنة فقط، بل عبر الصور أيضا، التي تؤبدُ لحظات الفرح، ولحظات الجماعة، وتكثف استيعاب حزن الفقد، وتقلبات العمر.
“الحاج إدمون عمران المليح” الذي كان ثمرة مجتمع ولحظة فقدتا ربما للأبد، إلا من الذاكرة وشيء من الشخصية الجمعية، كما يدندن على ذلك هذا الوثائقي “ألف يوم ويوم” (2024) وسابقه “زيارة” (2020)، وثيقة بصرية للفهم والاعتبار؛ ولكنه أيضا موقف ضد النسيان واليأس، بالكتابة والبسمة والصدح بالرأي، والوجود الحر أيضا؛ لأن الاستمرار في العيش والحديث موقف في حد ذاته، أو كما سبق أن قالت سيمون بيتون في نقاش مسجل مع مخرج رائعة “كأنها السماء” الفلسطيني إيليا سليمان، مستحضرة أحد شخوص وثائقيها حول جدار الفصل العنصري الإسرائيلي بفلسطين المحتلة: “رغم تحليله لأمور فظيعة، عندما سألته: إذن، أنت يائس!؟ أجاب: لا على الإطلاق، لست يائسا؛ أنا أتحدث! لقد علمني درسا؛ ففي مرات عديدة أحس بأني يائسة، لكني لا أزلت أتحدث، وأخرج أفلاما، فربما لست يائسة”.
كُنا قد تحدثنا في خبر "ألف يوم ويوم".. سيمون بيتون تحكي الحاج إدمون عمران المليح - غاية التعليمية بأستفاضة، ويمكنك تصفح جميع الأخبار المتعلقة بهذا الشأن عبر موقعنا غاية التعليمية الالكتروني.
0 تعليق