فيلم "الوحشي" للمخرج كوربيت.. سينما الحالات الإنسانية والنضالات الشخصية - غاية التعليمية

0 تعليق ارسل طباعة

فيلم "الوحشي" للمخرج كوربيت.. سينما الحالات الإنسانية والنضالات الشخصية - غاية التعليمية

غاية التعليمية يكتُب.. يُعد فيلم “الوحشي” “The Brutalist” (2024) للمخرج برادي كوربيت إنجازا ضخما في مجال الدراما التاريخية، حيث يقدم بحثا عميقا للحالة الإنسانية من خلال عدسة الهجرة والنضال الشخصي. يستمر الفيلم لثلاث ساعات ونصف الساعة، حائزا على إشادة من النقاد والعديد من الجوائز المرموقة؛ بما في ذلك جائزة أفضل مخرج لبرادي كوربيت، وأفضل ممثل لأدريان برودي، وأفضل تصوير سينمائي وأفضل موسيقى تصويرية في حفل توزيع جوائز الأكاديمية البريطانية للفنون السينمائية والتلفزيونية (بافتا/2025). يتناول هذا المقال تحليلا للمواضيع الشائكة التي يثيرها الفيلم، وتعقيدات السرد الفيلمي، والشخصيات التي يعرضها، والتقنيات البصرية التي استخدمها المخرج لإحياء هذه القصة المؤثرة.

اخر الاخبار العاجلة عبر غاية التعليمية أخبار محلية ودولية، وكذلك أخبار الر ياضة وخاصة كرة القدم يلا كورة و يلا شوت اليوم.

وُلد المخرج برادي كوربيت في (17 غشت 1988) في سكوتسديل، بأريزونا (الولايات المتحدة الأمريكية). بدأ كوربيت مسيرته الفنية كممثل، حيث شارك في العديد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية؛ ثم ككاتب سيناريو، قبل أن ينتقل إلى الإخراج. يُعرف كوربيت بأعماله السينمائية التي تتناول مواضيع معقدة، وتقدم شخصيات متعددة الأبعاد. ويتميز المخرج بأسلوبه المتفرد في الإخراج، حيث يركز على تقديم شخصيات متعددة الأبعاد وسرديات فيلمية معقدة تتناول قضايا اجتماعية ونفسية وسياسية متلازمة. وتتميز أفلامه بالتصوير السينمائي المبتكر والموسيقى التصويرية المؤثرة، مما يمنح لأعماله الفنية تجربة غنية وممتعة. ويعكس فيلمه الأول “قائد طفولة”، ” The Childhood of a Leader ” (2015) وفيلمه الثاني “فوكس لوكس”،” Vox Lux ” (2018) وفيلمه الثالث ” الوحشي”، ” The Brutalist “، انشغالا بموضوعات الطفولة والهجرة والشهرة والمرأة بحفريات تاريخية ورؤية للتجربة الإنسانية وحالاتها من منظور جد معقد.

أفلام برادي كوربيت.. رباعية الطفولة والشهرة والهجرة والتعقيدات الشخصية

تُعتبر أفلام برادي كوربيت مشهورة بتناولها العميق للتجارب البشرية المعقدة، وتتطرق غالبا إلى موضوعات مثل الطفولة والشهرة والهجرة والتعقيدات الشخصية. وتتداخل هذه المواضيع بشكل كبير ونسقي في أعماله، مما يخلق سرديات فيلمية تلامس الجمهور بعمق.

في فيلم “طفولة قائد”، يأخذنا كوربيت عبر سنوات تكوين صبي صغير يُدعى بريسكوت، يجسده الممثل (توم سويت). وتدور الأحداث في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، ويستكشف الفيلم كيف يمكن أن تؤثر التجارب الطفولية والتأثيرات الخارجية على مصير الفرد. تُظهر تفاعلات بريسكوت مع والده الصارم، تشارلز (ليام كننجهام)، ووالدته الداعمة، صوفيا (بيرينيس بيجو)، القوى المتعارضة التي تؤثر في نشأته. تُبرز عبارة مهمة قالتها والدته صوفيا: “أريد فقط حمايته من ظلمة العالم” البيئة الحامية والمعقدة التي نشأ فيها بريسكوت. ويقدم الفيلم مثالا واضحا عن كيفية تآكل براءة الطفولة من خلال الضغوط الاجتماعية والعائلية؛ مما يوفر تعليقا عميقا عن هشاشة الطفولة وخلق الرجل المستبد فيما بعد.

يتناول فيلم “فوكس لوكس” لكوربيت موضوع الشهرة من خلال منظور المغنية سيليست، التي تجسدها ناتالي بورتمان. ويتبع الفيلم رحلة سيليست من ناجية من إطلاق نار في مدرسة إلى نجمة بوب عالمية، ملتقطا الصعاب والتجارب التي تصاحب الشهرة. وبينما تتنقل سيليست في تعقيدات الشهرة، يتعمق الفيلم في تأثير الصدمات والنهج الشره للجمهور تجاه ثقافة المشاهير والمؤثرين. لحظة مؤثرة تحدث عندما تتأمل سيليست مسارها: “لا يمكنك محو الماضي، يمكنك فقط المضي قدما”؛ مما يكشف عن التأثيرات المزعجة لتجاربها المبكرة والسعي المستمر إلى تحقيق النجاح. يبحث الفيلم في ماهية الشهرة، وهو نقد مبطن واحتفاء في الوقت نفسه بقيمة النجاح وتجاوز التحديات؛ مما يبرز ازدواجية التقدير العام والمعاناة الشخصية.

تعتبر موضوعة الهجرة والبحث عن الهوية رئيسية في فيلمي كوربيت “طفولة قائد” و”فوكس لوكس”. في الأول، يؤكد الإعداد الأوروبي بعد الحرب على التهجير وعدم اليقين الذي واجهته العديد من العائلات خلال تلك الحقبة حيث تكافح عائلة بريسكوت، على الرغم من استقرارها الظاهر، مع المشهد السياسي المتغير وتأثيره على حياتها. وفي فيلم “فوكس لوكس”، صعود سيليست إلى الشهرة يتوازى مع نضالها للتصالح مع هوياتها الماضية والحاضرة وتراثها كمهاجرة تبتغي الاندماج الثقافي الذي تمر به والذي يضيف إلى شخصيتها طبقات من المناعة؛ مما يعكس التجارب الكبيرة للمهاجرين الذين يسعون إلى البحث على مكانة متقدمة في ديار المهجر.

تحضر ثيمة أخرى في أفلام كوربيت، وهي التعقيدات الشخصية في صميم السرد الفيلمي لأعماله. شخصياته متعددة الأبعاد تتصارع فيما بينها، تحاول التخلص من صراعاتها الداخلية والضغوط الخارجية. في فيلم “طفولة قائد”، تحول بريسكوت من طفل بريء إلى شخصية ذات سلطة يتسم بصراعه الداخلي بين الضعف والعدوان. وبالمقابل، في فيلم “فوكس لوكس”، يرتبط تطور سيليست كفنانة بشياطينها الشخصية؛ مما يؤدي إلى لحظات من التأمل الذاتي والشك. ويجسد شخصية جود لو، المدير لأعمالها، هذه التعقيدات عندما ينصح سيليست: “يجب أن تكوني قوية، حتى عندما يبدو أن كل شيء ينهار”. تجسد هذه الجملة الصمود المطلوب للتنقل في تحديات الحياة من أجل الحفاظ على واجهة القوة والكاريزما.

تشهد أفلام كوربيت على قدرته على نسج هذه الثيمات بحساسية كبيرة وعمق. ويعكس تصويره للطفولة والشهرة والهجرة والتعقيدات الشخصية نسيجا غنيا يدعو الجماهير إلى التفكير في تجاربها الشخصية، من خلال شخصيات مثيرة ونصوص تدفع إلى التفكير والتأمل. كما يسلط المخرج الضوء على الحالة الإنسانية العامة، مقدما نافذة مفتوحة على التعقيدات التي تحدد حياتنا.

بوابة العنوان.. أوجه الوحشية

يحمل فيلم “الوحشي” للمخرج برادي كوربيت عنوانا مثيرا يطرح تساؤلات متعددة، ويحمل كذلك دلالات متعددة على المستويات السياسية والاجتماعية والتاريخية. ويمكن تفسير عنوان فيلم “الوحشي” من زوايا مختلفة: يحيل العنوان إلى الوحشية والتحديات السياسية التي تواجهها الشخصيات، وخاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويتضمن الصراعات السياسية والاجتماعية التي نشأت في فترة الحرب والتحديات التي واجهها الناس في محاولاتهم لإعادة بناء حياتهم ومجتمعاتهم.

كما يعكس العنوان أيضا التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه الشخصيات الرئيسية، مثل المهندس المعماري لازلو توث، وهو يحاول التكيف والنجاح في بيئة جديدة بعيدا عن مآسي الحرب. وقد تشير “الوحشية” إلى الصعوبات والتحديات التي يواجهها الأفراد في مجتمع جديد ومختلف كالمجتمع الأمريكي. ويمكن أن يرتبط العنوان أيضا بالوحشية التي عاشها الناس خلال فترات الحروب والنزاعات، خاصة أن الفيلم يتناول حياة المهندس المعماري الذي نجا من الهولوكوست. ويمكن أن يكون العنوان تذكيرا بالوحشية والفظائع التي تم ارتكابها باسم البحث عن مناطق النفوذ وسلطة الزعيم المطلقة.

فيلم “الوحشي”.. الحفاظ على شعلة الأمل

يتمحور فيلم “الوحشي” من تأليف برادي كوربيت و(منى فاست فولد) في جوهره حول موضوع الصمود والسعي إلى تحقيق الأحلام في مواجهة الشدائد. ويتبع الفيلم حياة مهندس معماري مجري يدعى (لازلو توث) (جسّد دوره الممثل أدريان برودي)، يهاجر إلى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ساعيا إلى إعادة بناء حياته ومسيرته المهنية في أرض غريبة مرددا في أصعب اللحظات أن “الهجرة ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هي رحلة إعادة اكتشاف الذات”. ويتكرر هذا الموضوع المركزي للهجرة في أعمال كوربيت، والذي يعبر من خلاله في كثير من الأحيان عن تعقيدات النزوح والهوية والنضال البشري لتحقيق مستقبل أفضل. ويلقي المخرج، من خلال رحلة البطل، الضوء على التحديات المتعددة التي يواجهها المهاجرون؛ بما في ذلك التكيف الثقافي والانتكاسات المهنية والتضحيات الشخصية مع إيمان المهندس بمقولته: “أحيانا يكون التحدي الأكبر هو الاحتفاظ بالأمل في وجه اليأس”.

فيلم “الوحشي”.. الشخصيات المعقدة

تعكس العلاقات بين الشخصيات في فيلم “الوحشي” بالتعقيد وتعدد الأبعاد وتعقيدات الروابط البشرية. وتتسم تفاعلات البطل مع عائلته وزملائه ومعارفه بالدقة والحساسية؛ مما يبرز الأبعاد العاطفية والنفسية لهذه العلاقات. ويضمن إخراج كوربيت أن تكون كل شخصية متكاملة، مع دوافعها وصراعاتها، مما يضيف عمقا للسرد الفيلمي. علاقة البطل مع زوجته (إرزيبيت توث) (جسدتها الممثلة فيليسيتي جونز)، مؤثرة بشكل خاص، حيث تتنقل في التوازن الدقيق بين الحب والطموح والتضحية الشخصية والأحلام المشتركة حيث يمكن التقاط عبارته التي تلخص فهمه للحياة أن”العلاقات الإنسانية هي ما يجعل الحياة تستحق العيش، حتى في أحلك اللحظات”.

أحد أكثر المشاهد التي لا تُنسى في فيلم “الوحشي” هو مواجهة البطل مع ماضيه، حيث يتأمل في الخيارات التي اتخذها والتضحيات التي قدمها. وهذا المشهد مشحون بالعاطفة ومثير على المستوى البصري، حيث يستخدم كوربيت مجموعة من التقنيات السينمائية لنقل الصراع الداخلي للبطل. كما استخدام اللقطات المقربة والحركات الديناميكية للكاميرا لخلق إحساس بالحميمية والفورية؛ مما يجذب الجمهور إلى الرحلة العاطفية للبطل وخلق تعاطف معها. هذه اللحظة من التأمل هي نقطة تحول في السرد الفيلمي، مما يبرز صمود البطل وتصميمه على التغلب على كل الشدائد والتحديات. ويتأمل البطل في رحلته قائلا: “في السعي إلى تحقيق الأحلام، نجد أنفسنا غالبا ضائعين في متاهة من صنعنا”.

ويجسد هذا القول نضال البطل للتنقل في تعقيدات حياته الجديدة، مما يبرز المواضيع الكبرى للصمود والعزم الكبير. وكما يضفي حوار الفيلم بأصالته وعمقه العاطفي تأثيرا على مسارات الأحداث حيث يلتقط الفروق الدقيقة في التفاعل البشري وتعقيدات العلاقات الشخصية.

يلعب جاك، الذي يجسده الممثل لوغان مارشال-جرين، دورا محوريا يجعله البطل الرئيسي للقصة. جاك هو شخصية معقدة وقوية تواجه العديد من التحديات والمخاطر خلال مسار الفيلم. وهو محارب سابق يجد نفسه متورطا في مهمة خطيرة تهدف إلى إنقاذ مجموعة من الأشخاص من خطر محدق. يتمتع بمهارات قتالية عالية وخبرة في التعامل مع المواقف الصعبة. وتعكس شخصيته الشجاعة والإصرار، مما يجعله قائدا طبيعيا يلهم الآخرين للوقوف بجانبه.

يتصدى جاك للعديد من الأعداء الخطرين بأسلوب حازم وفعّال. ويظهر مهاراته القتالية ويستخدم ذكاءه الاستراتيجي للتغلب على التحديات. ويقوم بإنقاذ الأشخاص الذين يقعون في خطر، مما يعزز صورته كبطل ملتزم بمساعدة الآخرين وحمايتهم. ويقدم تضحيات كبيرة على الصعيد الشخصي من أجل تحقيق أهدافه وإنقاذ الآخرين. بفضل مهاراته وشجاعته وتضحيته، يصبح جاك بطل الفيلم الذي يجسد القيم الإنسانية العالية ويقدم نموذجا للإصرار والشجاعة. وهذه التضحيات تعكس نبل أخلاقه وقيادته في مواجهة العدو الرئيسي له ماركوس. وتتسم العلاقة بينهما بالتوتر والصراع، ويجسد ماركوس محور الشر والتحدي الأكبر الذي يجب على جاك التغلب عليه. وتتسم شخصية ماركوس بالتعقيد والتركيب متعدد الأبعاد (جسد دوره الممثل جو ألوين)، ماركوس هو شخص ثري يغير حياة المهندس المعماري لازلو توث بشكل كبير. ويقوم بتكليف المهندس لازلو بتصميم مجمع ضخم يتضمن مكتبة وكنيسة وصالة رياضية، يمثل هذا فرصة هائلة ولكن أيضا تحديا كبيرا.

وتتسم علاقة جاك بماركوس بالحذر الشديد، فالعلاقة بين الشخصيتين تنطوي على التعقيد وعلى صراعات مصالح أو رؤى مختلفة حول المشروع الكبير الذي يعمل عليه المهندس لازلو. وتعكس هذه الصراعات جزءا من الحبكة الدرامية للفيلم وتساهم في تعميق الشخصيات وزيادة التوتر الدرامي للفيلم.

حضور المرأة في الفيلم

تحفل أفلام برادي كوربيت بالحضور القوي للمرأة في أغلب أعماله، وكذلك بالتعاون في التأليف مع الكاتبة (منى فاست فولد)، كما تتعدد الشخصيات النسائية داخل الفيلم. وتحمل (إيما) وهي شخصية معقدة أسرارا وأبعادا متعددة. وهي حليفة للبطل جاك، وتعمل معه لمواجهة التحديات والأعداء. وتمتلك إيما قدرات ومهارات تجعلها شريكا قويا في الرحلة التي يخوضها جاك. وتلعب دورا مهما في دعم البطل وتقديم العون والمشورة له، كما تسهم في الكشف عن بعض الحقائق المهمة التي تقلب مجرى الأحداث. وليست (إيما) مجرد شخصية مساعدة، بل لها قوس درامي خاص بها يعكس تطور شخصيتها ونموها. وتعبر عن القوة والذكاء والشجاعة التي تملكها، مما يجعلها شخصية بارزة ومحبوبة في الفيلم.

في فيلم “The Brutalist”، يتمثل الحضور النسوي في شخصيات نسائية قوية ومؤثرة؛ مثل إرزيبيت توث، التي تجسد دورها فيليسيتي جونز. وتقدم إرزيبيت شخصية محورية في حياة المهندس لازلو، باعتبارها الزوجة وحاضنة الأسرار وتعمل على تقديم الدعم المستمر والتشجيع خلال رحلته لتحقيق النجاح في الولايات المتحدة. وتظهر كرمز للصبر والقوة، وتساعد المهندس لازلو على مواجهة التحديات التي يواجهها. وتجسد بشخصيتها المرونة والقوة، وتظهر الدور الأساسي الذي تلعبه النساء في حياة شركائهن وأسرهن.

بالإضافة إلى ذلك، يشمل الفيلم شخصيات مثل جوفيا، ابنة شقيقة لازلو، والتي تجسدها رافي كاسيدي. وتمثل جوفيا قوة النساء وقدرتهن على التغلب على التحديات والصعاب، مما يبرز دورهن في مواجهة الصعوبات.

كما يطرح السياق التاريخي للفيلم إبراز دور النساء في المجتمع الأمريكي خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويُظهر كيف ساهمت النساء في إعادة بناء الأمة ودعم أسرهن في ظل الظروف الصعبة. ويعكس الحضور النسوي في الفيلم تنوع الأدوار التي تلعبها النساء وأهميتهن في تحقيق التوازن والاستقرار في حياة الشخصيات الرئيسية.

وتضيف هذه الشخصيات النسائية عمقا وقوة للقصة وللسرد الفيلمي، وتعكس أهمية النساء في مختلف جوانب الحياة حيث يمتد تأثيرهن ليشمل الدعم العاطفي والنفسي، بالإضافة إلى دورهن في تقدم الأحداث ودفع الحبكة الفيلم إلى الأمام.

فيلم “الوحشي”.. التعقيدات الاجتماعية والشخصية

تتميز سينما برادي كوربيت بتركيزها على الحالة الإنسانية، حيث تستكشف تعقيدات النضالات الشخصية والاجتماعية. وتتناول أفلامه غالبا موضوعات معقدة، وتقدم شخصيات متعددة الأبعاد وسرديات تردد صداها مع الجمهور.

ويعتبر فيلم “الوحشي” شهادة على براعة كوربيت الإخراجية، حيث يعرض قدرته على صياغة نص مؤثر ومؤثر عاطفيا. ويتناول هذا الفيلم قضايا اجتماعية وسياسية عديدة؛ بما في ذلك التحديات التي يواجهها المهاجرون في أرض أمريكية جديدة، وتأثير خلفيات الحرب على الأفراد والمجتمعات، والسعي إلى تحقيق الحلم الأمريكي. من خلال رحلة البطل، يستكشف كوربيت التداعيات الأوسع لهذه القضايا، مسلطا الضوء على الصمود والتصميم اللازمين للتغلب على الشدائد. وتصوير الفيلم لهذه المواضيع مؤثر ومحفز للفكر، ويشجع الجمهور على التأمل في تعقيدات التجربة الإنسانية. وتصوير الفيلم لتجربة المهاجرين له صدى خاص في المناخ الاجتماعي والسياسي الحالي، حيث يقدم منظورا دقيقا للتحديات والانتصارات لأولئك الذين يسعون إلى حياة أفضل في أرض جديدة.

الأبعاد النفسية للفيلم مؤثرة أيضا، حيث يتعمق كوربيت في الصراعات الداخلية للأبطال والعذاب العاطفي للشخصيات الفيلمية. ويصور الفيلم تأثير الصدمة والخسارة والنزوح على الفرد، مما يبرز الصمود النفسي اللازم للتنقل في هذه التحديات. رحلة البطل مليئة بلحظات من التأمل والاكتشاف الذاتي، مما يخلق سردا غنيا ومثيرا يتردد صداه مع الجمهور.

ويتسم استكشاف الفيلم لنفسية البطل بالحميمية والطابع الانساني على حد سواء، حيث يلتقط تعقيدات التجربة الإنسانية والسعي إلى تحقيق الهوية والهدف المنشود.

فيلم “الوحشي”.. الأسلوب البصري

يعتبر الأسلوب البصري لفيلم “الوحشي” أحد أبرز سماته، باستخدامه تصويرا سينمائيا مبتكرا ومثيرا، حيث استخدم المخرج مجموعة من التقنيات لنقل الرحلة العاطفية للبطل.

ويتسم هيكل السرد الفيلمي في الفيلم بتصميمه الدقيق، حيث يستخدم تقنية السرد غير الخطي لدمج الماضي والحاضر واستشراف المستقبل ولتقديم فهم شامل لتجارب البطل.

وتسمح هذه التقنية للجمهور بفهم دوافع الشخصيات ومخاوفها وطموحاتها، مما يخلق تجربة مشاهدة غنية وممتعة. وكذلك في بناء التوتر التدريجي والصدى العاطفي، وهو شهادة على مهارة كوربيت كقاص ومؤلف، حيث يوازن ببراعة بين الجوانب الحميمة والسرد الفيلمي والعمق الثقافي والخلفية الفلسفية والسياسية.

يحتوي الحوار في فيلم “الوحشي” على حورات قوية لها حمولات تاريخية وفلسفية وبأبعاد إنسانية بشكل مؤثر أيضا، حيث ينظر المهندس المعماري لازلو توث بخلفية تاريخية وقراءة سياسية واجتماعية لوضعه الجديد معبرا عنها أن “الهجرة ليست هروبا، بل بداية جديدة”؛ في حين ترى زوجته إرزيبيت توث أن “القوة تكمن في الاستمرار رغم التحديات”. ويرى ماركوس أن “المشاريع العظيمة تبدأ بأفكار صغيرة”. ويحتوي الحوار على العديد من الخلفيات الثقافية والفكرية المختلطة والمتنوعة الهويات والتي تلتقط جوهر الشخصيات والمواضيع التي يناقشها الفيلم.

تتمثل أحد الجوانب الرئيسية لأسلوب كوربيت الإخراجي في قدرته على خلق إحساس بالحميمية والفورية في أفلامه. ويتم تحقيق ذلك من خلال استخدامه المبتكر للتصوير السينمائي، فضلا عن تركيزه على السرديات المحركة للشخصيات. وفي فيلم “الوحشي”، يستخدم كوربيت مجموعة من التقنيات السينمائية لنقل الرحلة العاطفية للبطل، مما يخلق تجربة مشاهدة مثيرة وجذابة للجمهور. فقد استخدام الفيلم لقطات بانورامية ولقطات قريبة، وحركات الترافلينغ للكاميرا مما عزز من قوة السرد الفيلمي، ومما ساعد في جذب الجمهور إلى عالم البطل وصراعاته الداخلية.

كما استخدام المخرج الضوء والظل في الفيلم، وهو جانب آخر، ملحوظ من أساليب كوربيت البصرية، وإلى تقنيات (الكياروسكورو) المستخدمة في الفيلم والتي تخلق إحساسا بالعمق والتباين، مما يعكس الصراعات الداخلية والعذاب العاطفي للبطل. هذا الرونق البصري مكمل للأسلوب التصويري للفيلم، والذي يتميز بتصاميم هندسية صارخة وبسيطة ومواد خام غير مزينة. وهذا الاختيار للأسلوب البصري لا يعزز فقط المحتوى الموضوعي للفيلم، بل يخدم أيضا كمرآة لهوية الشخصيات وصراعهم لإيجاد مكانة اعتبارية في أرض جديدة.

حصلت الموسيقى التصويرية للفيلم على إشادة واسعة وفازت بجائزة أفضل موسيقى أصلية في حفل توزيع جوائز بافتا (2025) والتي ألفها الملحن دانييل بلومبرغ. وتلعب دورا حاسما في تعزيز التأثير العاطفي للسرد الفيلمي. وتعكس الموسيقى التصويرية رحلة البطل بخلفية مؤثرة ومثيرة للفيلم، بل تخدم أيضا كأداة سردية، توجه الجمهور عبر المناظر الداخلية للشخصيات الفيلمية، حيث استخدم فيها الترتيبات الأوركسترالية والتراكيب البسيطة لخلق تجربة سمعية قوية تتردد صداها مع الجمهور ولتعزيز الوزن العاطفي للمشاهد الرئيسية.

كما طلب المخرج كوبريت، في أحد المشاهد المهمة للفيلم، من الممثلين أداء مشاعر معقدة ومتباينة. ولتحقيق هذا الأداء، جلس كوبريت مع كل ممثل على حدة وناقش الخلفية العاطفية للشخصية والمحفزات التي تدفعها؛ فقد ساعد هذا الحوار العميق مع الممثلين على فهم أدوارهم بشكل أفضل وتقديم أداء حقيقي ومؤثر. وقد استخدم كوبريت في مشهد آخر يتطلب تنسيقا عاليا بين ممثلين عديدين، وتدريبات مكثفة لضمان تحقيق التناغم المطلوب. ونظّم جلسات (بروفات) مستمرة، وشجع الممثلين على التعاون وتبادل الأفكار. وقد ساعدت هذه الجهود على خلق بيئة عمل متعاونة ومنسجمة ساهمت بأدادءات جد مميزة. وقد استعان كوبريت لتجسيد مشهد مميز يحتاج إلى أداء جسدي مكثف بخبير في التدريب الجسدي للعمل مع الممثلين. وهذه التدرايب ساعدتهم على تحسين أدائهم البدني والتأكد من تقديم الأداء بالشكل الذي يتطلبه السيناريو.

من خلال هذه الأمثلة، يتضح أن برادي كوبريت يولي اهتماما كبيرا بالتفاصيل ويعمل بشكل دؤوب مع الممثلين لتحقيق رؤية فنية متكاملة، بالإضافة إلى تعامله الاحترافي والمنهجي مع فريق العمل الذي أسهم في خلق تجربة سينمائية مميزة تستحوذ على انتباه المشاهدين.

يُعرف برادي كوبريت بأسلوبه المتفرد في الإخراج، وتتميز أفلامه بالتصوير السينمائي المبتكر والموسيقى التصويرية المؤثرة وبقصص لها امتداد تاريخي واجتماعي ودرامي بعمق سياسي؛ مما يجعلها تجربة مشاهدة غنية وممتعة مع وصية بطل الفيلم أن “المعماري لا يبني فقط الهياكل، بل يبني الأحلام والمستقبل”، بما تحمله الجملة من أبعاد تاريخية واجتماعية ورؤية استشرافية للمستقبل.

* كاتب مغربي

كُنا قد تحدثنا في خبر فيلم "الوحشي" للمخرج كوربيت.. سينما الحالات الإنسانية والنضالات الشخصية - غاية التعليمية بأستفاضة، ويمكنك تصفح جميع الأخبار المتعلقة بهذا الشأن عبر موقعنا غاية التعليمية الالكتروني.

جميلة الهادي
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق