هل تضللنا السوسيولوجيا؟ .. حين يتحول التحليل الاجتماعي إلى خطاب تبريري - غاية التعليمية

0 تعليق ارسل طباعة

هل تضللنا السوسيولوجيا؟ .. حين يتحول التحليل الاجتماعي إلى خطاب تبريري - غاية التعليمية

غاية التعليمية يكتُب.. صدر كتاب “Le danger sociologique” “الخطر السوسيولوجي” سنة 2017 وهو مؤلَّف مشترك بين “Gérald “Bronner et Étienne Géhin جيرار برونير وإتيان جيهان؛ يهدفُ الكاتبان إلى التحذير من الانحراف الذي يشهده الحقل السوسيولوجي، حيثُ يسيطر، بحسب رأيهما، اتجاهٌ مفرطٌ يخصّ الحتمية الاجتماعية، يهمل دور الفرد ويقلل من أهمية العلوم المعرفية في تفسير الظواهر الاجتماعية.

اخر الاخبار العاجلة عبر غاية التعليمية أخبار محلية ودولية، وكذلك أخبار الر ياضة وخاصة كرة القدم يلا كورة و يلا شوت اليوم.

ينتقدُ المؤلفان ما يصفانه بـ”السوسيولوجيا المفرطة”، وهو اتجاه يسعى إلى تفسير الظواهر الاجتماعية عبر البُنى الجماعية والأنساق الحتمية، متجاهلًا ما للفرد من قدرة على الفعل العقلاني المستقل. في المقابل، يدافعان عن نموذج سوسيولوجي يقوم على الفردانية المنهجية، حيث يُنظر إلى النسق الاجتماعي بوصفه حصيلة تفاعلات فردية، لا تنشأ عن حتميات بنيوية مطلقة، بل عن اختيارات الأفراد وحساباتهم المرتبطة بمصالحهم الخاصة. ومن ثم، فإن الظواهر الجماعية لا تُملَى من علٍ، بل تتشكل من الأسفل إلى الأعلى، إذ تتراكم القرارات الفردية لتُفرز انتظامات مجتمعية معقدة، لكنها تظل متسقة منطقيًا وقابلة للتفسير العقلاني.

هذه، في تقديري، واحدة من أهمّ خلاصات هذا الكتاب القيّم لانفتاحها على مدارين أساسيين، أجملهما وفق ما يلي:

يرى المؤلفان أن بعض المقاربات السوسيولوجية السائدة تتسم بانحيازها نحو الحتمية الاجتماعية، حيث تُضخّم الدور الذي تلعبه البُنى المجتمعية في تشكيل سلوك الأفراد، مما يؤدي إلى تجاهل قدرة هؤلاء على اتخاذ قرارات عقلانية والتفاعل بشكل مستقل مع محيطهم. تفسر هذه الرؤية الاختلافات الاجتماعية بطريقة اختزالية، وتُعزى بشكل حصري إلى عوامل بنيوية مثل النظام التعليمي أو الرأسمال الاقتصادي والثقافي، دون أن تأخذ بعين الاعتبار الديناميات الفردية التي تسهم بشكل كبير في تشكيل الواقع الاجتماعي. ونتيجةً لهذا التوجّه، يُنظر إلى الأفراد بوصفهم ضحايا خاضعين كليًّا للبُنى المحيطة بهم، وهي مقاربة ينتقدها الكاتبان لكونها تعزز منظورًا قدريًّا يجعل من البنية المجتمعية المسؤول الأول عن التفاوتات الاجتماعية، متجاهلةً بذلك الأدوار الفاعلة للأفراد في إعادة التفاوض مع واقعهم، بل وإعادة تشكيله أحيانًا وفقًا لاستراتيجياتهم الخاصة في مواجهة التحديات. فمن خلال قدرتهم على التكيف والإبداع، يتمكن الأفراد من إيجاد حلول تتلاءم مع سياقاتهم الفردية، ما يسمح لهم بخلق مسارات جديدة تتجاوز القيود التي تفرضها البُنى المجتمعية.

انطلاقًا من دعوة برونير وجيهان إلى تبني “الفردانية المنهجية”، يمكننا فهم المقاربة التي تراهن على قدرة الأفراد على اتخاذ قرارات عقلانية في تفسير الظواهر الاجتماعية. في مواجهة التصورات الحتمية التي تختزل الأفراد في كونهم ضحايا خاضعين للبُنى المجتمعية التي تملي عليهم أنماطًا سلوكية ثابتة، يؤكد المؤلفان أن الإنسان ليس مجرد انعكاس لواقعه الاجتماعي، بل يمتلك هامشًا من الحرية يسمح له باتخاذ قرارات تعبّر عن قناعاته وقيمه الخاصة. وبفضل هذه القدرة على الاختيار العقلاني، يصبح الأفراد فاعلين في تشكيل علاقتهم بمحيطهم، بما يتيح لهم هامشًا من الاستقلالية يتجاوز التأثيرات الخارجية المفروضة عليهم.

وفي هذا السياق، يشير الكاتبان إلى ضرورة الانفتاح على علوم الأعصاب وعلم النفس المعرفي لفهم آليات اتخاذ الأفراد لقراراتهم وتشكيلهم لقناعاتهم الاجتماعية. غير أن الكتاب، رغم إبرازه لهذه المسألة، يفتقر إلى أمثلة ملموسة توضّح السبل التي يمكن من خلالها للسوسيولوجيا أن تستفيد من هذه العلوم في تحليل الظواهر الاجتماعية.

هل تشكّل السوسيولوجيا خطرًا على فهمنا للمجتمع؟

وأنا أقرأ كتاب “الخطر السوسيولوجي” لجيرار برونير وإتيان جيهان، راودني تساؤل حول مدى إمكانية استفادة السوسيولوجيا العربية من أطروحاتهما في تجاوز هيمنة المقاربة الحتمية، وإعادة النظر في الحدود الفاصلة بين البنية والفاعلية الفردية كما تجلت في الفكر السوسيولوجي العربي. من هنا تبرز أهمية التساؤلات الجوهرية التي تعزو الظواهر الاجتماعية إلى محددات كبرى، مثل البنى الطبقية، والسلطوية، والثقافية، دون أن تتيح للأفراد مجالًا للفعل والاستقلالية في اتخاذ القرارات وفهْم واقعهم الخاص. تبرزُ، في هذا السياق، ضرورة إعادة النّظر في مركزية الحَتمية الاجتماعية، التي طالما شكلت جوهر الإنتاج السوسيولوجي في العالم العربي، حين هيمنت التفسيرات التي تربط الظواهر الاجتماعية ببُنَى فوقية قسْرية، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو ثقافية. فقد استندت العديد من الدراسات إلى تصورات تحيل سلوك الأفراد إلى تأثيرات الدولة المركزية أو الإرث الاستعماري أو التراتبيات القبلية، مما أدى إلى تهميش أبعاد الفاعلية الفردية. لكن المقاربة التي يدعو إليها برونير وجيهان تستدعي التساؤل أيضا عن مدى كفاية هذه التفسيرات، ومدى الحاجة إلى اعتماد نموذج يدمج العوامل الفردية والتفاعلية في الدراسة والتأويل، مما يسمح بفهم أعمق لدينامية الواقع الاجتماعي في المجتمعات العربية.

علاوة على ذلك، يظلّ الانفتاح على العلوم المعرفية والبحث في المحددات الإدراكية للسلوك الاجتماعي بعدًا مغيبًا إلى حدّ بعيد في السوسيولوجيا العربية المعاصرة. ذلك أن توظيف المقاربات المعرفية في تحليل السلوك الانتخابي العربي، الذي يُردّ غالبًا إلى الولاءات القبلية أو الدينية أو الطبقية، من شأنه أن يكشف عن آليات أعمق في تشكيل القرار السياسي للأفراد، شريطة أن يُستثمر هذا المنظور بشكل منهجي وفاعل.

هلْ السُّوسيولوجيا علْمٌ أمْ إيديولوجيا مُقنّعَة؟

يميل الخطاب السائد في السوسيولوجيا إلى تقديم المجتمعات بوصفها خاضعة لهيمنة أنظمة أو واقع اقتصادي مسيّر، وهو ما يُفضي إلى مقاربة لا تمنح الأفراد أي مساحة لمُقاومة البُنى المسيطرة. غير أن الطرح الذي يتبناه “الخطر السوسيولوجي” يدفع إلى مساءلة هذه الرؤية عبر البحث في آليات المناورة وأشكال الابتكار الاجتماعي التي يبتدعها الأفراد، مما يعيد الاعتبار لدور الفاعل الاجتماعي بوصفه شريكا في إعادة إنتاج المجتمع، لا كيانًا مستسلِمًا لواقع مفروض.

في ضوء هذه المراجعات، يصبح من الضروري إعادة النظر في العلاقة بين البنية والفاعلية الفردية داخل الفكر السوسيولوجي العربي. بينما تنزع بعض الاتجاهات إلى تفسير حتمي يربط الظواهر الاجتماعية بالبنى الكلية، يذهب اتجاه آخر إلى النقيض، متبنّيًا منظورًا ليبراليًا مفرطًا يفترض أن الأفراد يتحركون بحرية مطلقة، متجاهلًا القيود البنيوية التي تؤطر أفعالهم. هكذا، يقدم “الخطر السوسيولوجي” بديلا يسمح بدمج المقاربتين، عبر الإقرار بتأثير البنى، ولكن دون إنكار مساحة الفعل والتأثير الفردي، وهو ما يمكن أن يسهم في بناء نموذج أكثر توازناً وواقعية لتحليل المجتمع العربي. إن استيعاب هذه الأطروحات لا يقتضي التخلي عن الأطر النظرية الكلاسيكية في السوسيولوجيا العربية، بل يستدعي مساءلتها وإثراءها بمقاربات أكثر تعددية وانفتاحًا. فالبحث في كيفية اتخاذ الأفراد للقرارات، وتحليل الأبعاد المعرفية والعاطفية للسلوك الاجتماعي، ودراسة استراتيجيات التكيف والمقاومة التي يعتمدها الفاعلون الاجتماعيون، كلها عناصر يمكن أن تفتح أفقًا جديدًا للسوسيولوجيا العربية، وتمكّنُ من تجاوز التفسيرات الاختزالية التي حكمت هذا المجال لعقود طويلة.

لماذا علينا الاهتمام بكتاب “الخطر السوسيولوجي”؟

يتميز هذا الكتاب بمواجهته لنزعة الاختزال التفسيري للظواهر الاجتماعية، التي تحصر أسبابها في عوامل أحادية، كالمحددات الطبقية أو الإرث الاستعماري أو البُنى السلطوية، دون مراعاة التعقيد الفعلي للمجتمع. ولا تزال هذه النزعة حاضرة في كثير من التحليلات السوسيولوجية العربية، حيث يُفسَّر العديد من الأزمات حصريًا من منظور العوامل البنيوية، كالموروث الاستعماري والأنظمة السياسية، مع إغفال الدور الحيوي للفاعلين الاجتماعيين وآليات التكيف والتغيير التي تتشكل ضمن هذه البُنى ذاتها.

تمر المجتمعات العربية اليوم من تحولات عميقة على عدة مستويات: اجتماعيًا، تتغير أنماط العلاقات بين الأفراد مع تصاعد دور الفردانية وضعف الروابط التقليدية. سياسيًا، تشهد المنطقة توترات بين مطالب الديمقراطية واستقرار السلطة. معرفيًا، نعيش في عالم تغزوه المعلومات، حيث أصبح تشكيل القناعات الاجتماعية متأثرًا بوسائل الإعلام الرقمية أكثر من أي وقت مضى. في هذا السياق، يقدم “الخطر السوسيولوجي” رؤية نقدية لطرق تفسير هذه التحولات، محذرًا من الميل إلى البحث عن “مُذنب” خارجي لكل أزمة، بدلا من تحليل الظواهر بطرق تركيبية ونسقية؛ من هنا خطر ترسيخ رؤية ضيقة للواقع تجعل الأفراد ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم ضحايا عاجزين عن الفعل. ويتجلى هذا الأمر في مجتمعاتنا من خلال الخطابات السائدة التي تعزو الفشل الاجتماعي إلى “قوى خارجية” تعرقل التقدم، بدلًا من السعي إلى بلورة استراتيجيات فردية وجماعية فاعلة لتحقيق التغيير.

قراءتي لهذا الكتاب مكنتني من طرح سؤالين متداخلين في ما بينها:

هل السوسيولوجيا تُفسّر أم تُبرّر؟ وهل نعيش حقّا في عصر السّوسيولوجيا المفرطة؟

ليست السوسيولوجيا مجرد أداة تفسيرية للظواهر الاجتماعية، بيد أنها في كثير من الأحيان تقود إلى التّبرير، إذ قد تعمد إلى ترسيخ الأوضاع القائمة عبر تقديم تفسيرات تسهم في تعزيز الوضع الراهن، بدلًا من مساءلته أو تقديم بدائل عنه. في هذا السياق، تتحول السوسيولوجيا إلى وسيلة لإضفاء الشرعية على بعض الظواهر الاجتماعية، مثل الطبقات أو الهياكل السّلطوية. وربما لهذا السّبب يَعتبر بعض الباحثين أننا نعيش عصر “السوسيولوجيا المفرطة” حينما يتم تكثيف توظيف المنهج السوسيولوجي إلى درجة يتم فيها تحليل كل ظاهرة اجتماعية من خلال منظور واحد فقط، مما يقلل من قدرة هذا المنهج على تقديم حلول مبتكرة أو فاعلة؛ من هذا المنظور، يمكن أن يؤدي هذا الانغماس المفرط في التحليل السوسيولوجي إلى حصر الفكر في نطاقه التقليدي، دون السعي لتجاوز الهياكل الاجتماعية القائمة أو التفكير في آفاق جديدة للتحول والتغيير.

في سياق المجتمعات العربية التي تعيش مرحلة انتقالية بين أنماط التفكير التقليدية ومتطلبات الحداثة، يعدّ الاهتمام بهذا الكتاب مناسبة لإعادة النظر في مقاربتنا للتحولات الاجتماعية، متجاوزًا الرؤية التي تختزل المجتمع في موقف الضحية أمام قوى خارجية، وموفرًا المجال للتفكير في الدور الفاعل للأفراد في إعادة تشكيل واقعهم.

كيف يمكن للمجتمعات العربية، التي تعيش مرحلة انتقالية بين الأنماط التقليدية ومتطلبات الحداثة، أن تعيد فهم تحوّلاتها الاجتماعية؟ هل آن الأوان لتجاوز الرؤية التي تجعل المجتمع ضحية لقوى خارجية؟ وكيف يمكننا التفكير في إمكانية أن يكون للأفراد دور فعّال في إعادة تشكيل واقعهم الاجتماعي؟ هل المجتمع العربي قادر على تبني أساليب جديدة في التفكير تسهم في تجديد بنيته الاجتماعية والثقافية؟ إلى أي مدى تساهم الهويات الثقافية التقليدية في تشكيل المقاومة أو التكيّف مع التحولات الاجتماعية الحديثة؟ هل مازالت المفاهيم السوسيولوجية التقليدية قادرة على تفسير التحديات التي يواجهها الفرد العربي في محيطه الاجتماعي؟

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

كُنا قد تحدثنا في خبر هل تضللنا السوسيولوجيا؟ .. حين يتحول التحليل الاجتماعي إلى خطاب تبريري - غاية التعليمية بأستفاضة، ويمكنك تصفح جميع الأخبار المتعلقة بهذا الشأن عبر موقعنا غاية التعليمية الالكتروني.

جميلة الهادي
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق