من سكورسيزي إلى كوبولا .. هل تؤثر الشيخوخة على الإبداع السينمائي؟ - غاية التعليمية
غاية التعليمية يكتُب.. شيخوخة الإبداع أم إبداع الشيخوخة؟
أسماء لامعة من الجيل المحال على الشيخوخة بقوة قانون الطبيعة، معه يطرح مشكل دوام حضوره في الإنتاج السينمائي الحاصل على ثقة كبار المنتجين. في بلدنا يُطرح المشكل بشكل آخر رسميًا وشعبيًا: سعي حثيث لمنح فرص أكبر للأجيال الفتية، بمعيار كميٍّ لا في تغييب لمعايير الجماليات المرتبطة بقيمها التي تمنحها المعنى. فما الإشكال، وكيف يطرح على المستوى الكوني؟
اخر الاخبار العاجلة عبر غاية التعليمية أخبار محلية ودولية، وكذلك أخبار الر ياضة وخاصة كرة القدم يلا كورة و يلا شوت اليوم.
مارتن سكورسيزي، فرانسيس فورد كوبولا، ريدلي سكوت، يوسف شاهين، عباس كياروستامي، وودي آلن، جان لوك غودار، وآخرون… على مدار تاريخ السينما، تطور صانعو الأفلام الأسطوريون باستمرار، حيث تكيّفوا مع تطوُّر أساليب الصناعات السينمائية (وليس الصناعات الفنية والثقافية، في سياق بِدعة بلدنا التي تتناول هذا الموضوع دون تدقيقٍ موضوعي ومُواطِن في المفهوم، وفي سياق أبعاده الوطنية والتحديثية خاصة، وقد استولت عليه عمليًا مؤسسة ليس بينها وبين الفن والثقافة أي رابطة عضوية). ومع دخول التكنولوجيات المُيَسِّرةِ للصياغة وبل وللاقتراح العمومي دون إمساك بالتفاصيل الحاملة للمعنى وللمبنى وللوجدان وللانفعالات والأحاسيس ولمهارات صادقة منفلتة للتعليب وللنمطية في الحكي وفي الإخراج، ومع اختلاف الأساليب والقصص الجديدة مع التقدم في العمر.
يُعد هؤلاء المخرجون من بين أعظم الذين شكّلوا ملامح السينما بأفلامهم الرائدة القوية التأثير على ملايين الجماهير على مدى عقود. ومع ذلك، يطرح في سياق هذا التساؤل العام سؤال مهم عند تحليل أعمالهم هؤلاء الكبار، وذلك بمناسبة آخر أفلامهم التي أنتجت وهم متقدمو العمر، فأثارت نقدًا لاذعًا أحيانًا من نقاد ذوي وزن، وإن كان أغلبهم ممن أسميهم شخصيًا الصحافيون المتخصصون في الترويج المدفوع الأجر أكثر منهم النقاد المستقلون المبدعون: هل تُقلِّلُ الشيخوخة من إبداعهم، أم أنها تدفع رؤيتهم الفنية إلى آفاق جديدة من خلال مقارنة روائعهم الأولى بأحدث أعمالهم؟
يمكننا استكشاف كيف يؤثر العمر وخِبرة النضج الوجودي من جهة، والتقدم التكنولوجي وتغير الرؤى من جهة ثانية، على إبداع كبار السينمائيين مع تقدمهم في السن وتمكّنِهِم من معنى الحياة ووعيهم بنسبيتها.
مارتن سكورسيزي: إتقان السرد عبر العصور
وُلد مارتن سكورسيزي عام 1942، وبرز في السبعينيات بأفلام مثل Mean Streets (1973) و Taxi Driver (1976)، حيث عُرف بأسلوبه الواقعي القاسي في حَكيِهِ، والغموض الأخلاقي في تحديد سياقات شخصياته، والطاقة الحركية للفعل الدرامي. كانت أعماله الأولى مليئة بالكثافة في السرد وقوة الفعل، عكست تصويرًا غير مصطنع ولا مفبرك للجريمة وللأزمات الوجودية ولما يعانيه شخوص أفلامه من تهميش اجتماعي.
على النقيض من بداياته، تُظهر أفلام مارتن سكورسيزي الأخيرة مثل The Irishman (2019) و Killers of the Flower Moon (2023)، نهجًا أكثر استغراقًا في التفكير وفي التأمل في معنى ودلالات الوجود الإنساني وفي القيم الإنسانية قبل الإخراج. ورغم استمراره في تناول موضوعات الجريمة والفساد، فإن أعمال مارتن سكورسيزي الحديثة تتناول الزمن والموت وعواقب الأفعال الماضية بشكل أعمق. يتميز إيقاعها بالبطء، وموضوعاتها بالطابع الفلسفي، وشخصياتها بالتأمل الذاتي.
بالمقارنة بين Goodfellas (1990) و The Irishman (2019)، نرى تحولًا من السرد السريع المليء بالحيوية إلى فحص متأنٍ للآثار طويلة المدى للجريمة. وبالمثل، هناك اختلاف بين فيلم The Wolf of Wall Street (2013) الذي احتفظ في مقاربته الإخراجية بدينامية التوضيب وبالرؤية الشبابية، وفيلم Silence (2016)، حيث يستكشف دروب الإيمان والمعاناة الوجودية بأسلوب تكثيفٍ مُتحفظٍ. تُظهر هذه المقارنات أن السينمائي مارتن سكورسيزي لم يفقد إبداعه الأساسي، بل صقل تركيزه الموضوعي، مستكشفًا أبعادًا مختلفة من التجربة الإنسانية مع تقدمه في السن وتعمق تجربته الوجودية هو ذاته.
فرانسيس فورد كوبولا: من الشباب الثوري إلى النهاية العظيمة
انطلقت مسيرة فرانسيس فورد كوبولا إلى القمة في السبعينيات مع The Godfather (1972)، و The Godfather Part II (1974)، ثم The Godfather Part III بعد سنوات و Apocalypse Now (1979). تميزت أعمال كوبولا المبكرة باحترافية السينمائي الطَّموح، وبعمقها النفسي وبفخامتها البصرية. لم يكن فرانسيس فورد كوبولا يخشى المخاطرة، سواء في الأسلوب السردي أو على المستوى التقني أو على مستوى اقتحام المواضيع بقوة وبقدرة مثيرة ومدهشة على التحكم في كاميراه “الناطقة”.
بعد فترة من العزلة النسبية في الألفية الثالثة، عاد كوبولا أخيرًا بالفيلم الفلسفي السياسي النقدي الكبير Megalopolis (2024)، وهو فيلم خيالٍ علمي طموح ومختلف عن المعروف، يجمع فيه تفكيرًا نقديًا سياسيًا للإمبراطوريات عموما، ولأمريكا خصوصًا، وللغرب كفكرة وكاستراتيجية حضارية تخصيصًا، على قاعدة فلسفية وإبداع بصري جريء وشجاع يذهب إلى حدود قصوى في اللامبالاة بشباك التذاكر وبمتطلباته. استغرق كوبولا في الاشتغال على فيلم Megalopolis عقودًا ليُكمله. إذا كانت أفلامه الشبابية تُعرف بسردها الأوبرالي وبموضوعاتها التاريخية الضخمة، فإن عمله الأخير يضُم طموحه وهو أعلى، إلى تكنولوجيا حديثة، وغوص في الفلسفة والتاريخ البشري السياسي وفي إشكاليات القيم والتصور الغربي بشكل تركيبي يتوج مساره نحو ما يمكن تسميته ب”السينمائي المُفكر”.
بالمقارنة بين فيلميه Apocalypse Now (1979) و Twixt (2011)، فإننا نلاحظ فرقًا كبيرًا في الطموح يظهر مع الأول عن حرب شغلت الجنيا وكشفت حقيقة القوة المفتقدة للإيمان وللعدالة، ورغبة في كبح الطموح مؤقتًا وتجريب مسايرة الآني بفيلم رعب لم ترقه فهجرها بسرعة. لقد كانت عودة كوبولا مع فيلم Megalopolis تعني محاولة لاستعادة مجد أعماله الأولى فخامة وقوة وعمقًا، ولعل ذلك ما يثبت أن العمر لم يُضعف رؤيته، بل منحه الحكمة والصّبر حتى زمن تحقيق أحلامه القديمة.
ريدلي سكوت: المبدع الذي لا يهدأ
عُرف ريدلي سكوت بإعادة تعريفه لأفلام الخيال العلمي والملحمات التاريخية. بدأ مسيرته بإخراج Alien (1979) و Blade Runner (1982). تميزت أعماله المبكرة بجمالياتها البصرية الرائدة، وبقدرتها على تقديم عوالم مبتكرة لعالم السينما وللمتفرجين على حد سواء، وذلك من خلال بناء مناخات تشويق وترقب وتماهٍ قوية وأخَّاذةٍ.
على عكس سكورسيزي وكوبولا، حافظ ريدلي سكوت على تدفق إنتاجي مُستقر، حيث أخرج أفلامًا عديدة وهو في الثمانينيات من عمره، مثل The Last Duel (2021) و Napoleon (2023). وبينما يرى بعض النقاد أن أعماله الحديثة تفتقر إلى التميُّزِ الإبداعي الذي ميَّز فيلم Blade Runner، فهناك من يرى بأن السرد والحكي في أفلامه أصبح أكثر تركيزًا على الشخصيات وما تعيشه داخليًا، مع حفاظه على براعته التقنية.
بالمقارنة بين Blade Runner (1982) و Blade Runner 2049 (2017) الذي كان سكوت منتجًا منفذًا له، وبين Gladiator (2000) و Napoleon (2023)، نرى تغيرًا لديه في طبيعة التركيز وموضوعه، فبينما ركزت أفلامه المبكرة على المشهدية والموضوعات الفلسفية، أصبحت أعماله الأخيرة تتعمق أكثر في النضالات الشخصية للشخصيات التاريخية والخيالية. علاوة على ذلك، تمثل أفلام مثل Prometheus (2012) و Alien: Covenant (2017) محاولة لتوسيع أسطورة Alien (1979) بنهايات وخلاصات مختلفة، على الرغم من تفاوت مستوى النجاح لكلا الجزئين. يثبت استمرار ريدلي سكوت في تناول مشاريع طموحة أن إبداعه لا يزال قويًا، وإن تغيرت أساليبه وأولوياته مع التقدم في النضج وفي السن.
يوسف شاهين: السينما كمرآة للتجربة الشخصية
إنه أحد أبرز المخرجين العرب، عُرف يوسف شاهين بأفلامه التي تعكس قضايا اجتماعية وسياسية عميقة فلسفية وجمالية. بدأ مسيرته بأفلام مثل باب الحديد (1958)، التي جسدت واقع المجتمع المصري بصراحة وبجرأة وبمساهمة منه في أداء شخصية محورية في الفيلم بشكل مذهل. مع تقدمه في العمر، أصبحت أفلام يوسف شاهين أكثر تعقيدًا وأغنى تأملاً في ذاته وفي تجربتها: ثلاثية الإسكندرية ابتداء من سنة 1979، و المهاجر (1994) و المصير (1997)، و العصفور (1974) و عودة الابن الضال (1976) وفيلم المصير (1997) إلخ، حيث استكشف موضوعات الهوية والحرية والإيمان والوطن والحب.
في أواخر مسيرته، قدم شاهين أفلامًا مختلفة نسبيًا مثل هي فوضى (2007)، التي تعكس نضجه الفني ورؤيته النقدية للواقع العربي. رغم التحديات الصحية، استمر شاهين في الإبداع حتى وفاته، مما يثبت أن العمر لم يكن عائقًا أمام رؤيته الفنية، بل منحه عمقًا أكبر في تناول القضايا الإنسانية.
عباس كياروستامي: البساطة التي تخفي التعقيد
عُرِف هذا السينمائي الإيراني الشهير الذي تبناه الغرب وفرنسا بالتحديد، وهو الآتي من بلد لا أحد يدري كيف صُنعت فيه أفلامٌ جذابة رغم العداء للفن وللفكر منذ عقود، عُرف بأسلوبه البسيط والعميق في نفس الوقت في الحكي في صناعة الفيلم السينمائي. بدأ مسيرته بأفلام مثل طعم الكرز (1997)، التي ناقشت موضوعات الحياة والموت ببراعة، ومن ثمة أخرج أفلامًا عديدة مع مساحة الإمكانيات والحرية التي تمتع بها إثر انتقاله للعيش في أوروبا، أسوة بالكثيرين من مخرجي العالم الأقل ديموقراطية والأقل وفرة في التوفر على إمكانات الإنتاج والترويج والتعبير السينمائي. مع تقدم عباس كياروستامي في العمر، أصبحت أفلامه أكثر تأملاً، مثل شخص عادي (2010)، حيث استكشف العلاقات الإنسانية والوجودية بمقاربات في الكتابة السينمائية تجسد السهل الممتنع، والمنساب الصادق، والإنساني دون بهرجة ولا تنميق تقني أو توهيمي يذكر.
أثبت السينمائي كياروستامي من خلال إرثه السينمائي المذهل: نسخة موثقة (2010)، مثل شخص وقع في الحب (2012) إلخ، أن الإبداع لا يرتبط بالعُمر، بل بالقدرة على الاستمرار في تجديد القدرة على رؤية العالم بعين جديدة، فحتى في سنواته الأخيرة، استمر في تقديم أعمال فريدة، مما جعله أحد أكثر المخرجين تأثيرًا في السينما العالمية.
وودي آلن: الفكاهة والتأمل في الشيخوخة
عُرِف وودي آلن، المخرج الأمريكي الشهير، بأفلامه التي تجمع بين الفكاهة وبين التأمل الفلسفي. بدأ مسيرته بأفلام مثل آني هال (1977)، التي جسدت روح السبعينيات بذكاء وحرفية. اشتغل وودي آلن دائمًا بنرجسية ومثل في أفلامه ومنحها صيغة نقدية وسخرية تحدت كل النقد والتضييق أحيانًا. ومع تقدمه في العمر، أصبحت أفلامه أكثر تأملاً في الذات وفي المجتمع وأنظمته، مثل ذلك فيلم منتصف الليل في باريس (2011) و عصرٌ من الجليد (2020)، حيث استكشف موضوعات الزمن والحنين والإرث والحب والأنثى والعلاقات الإنسانية بأسلوبه المتميز، وب”ثرثرته” التي تميزه. وتعتبر أفلامه مثل: كازينو رويال و الملك لير وقد أنتجت على التوالي سنتي 1967 و 1987، من أفلامه القوية والناجحة.
برهن وودي آلن على أن الإبداع يمكن أن يزدهر مع التقدم في العمر، حيث استمر في تقديم أفلام تحمل بصمته الفريدة، رغم التحديات العديدة ذاتيًا وموضوعيًا التي واجهها في مسيرته.
جان لوك غودار: الثورة المستمرة
يعتبر السينمائي جان لوك غودار، أحد أهم رواد الموجة الجديدة في السينما الفرنسية والتي جاورت فكريًا الموجة الجديدة في الرواية عموما. عُرف جان لوك غودار بأفلامه الثورية بالمعنى الفني والفكري للكلمة مثل، في مهب الريح (1960). مع تقدمه في العمر، أصبحت أعمال جان لوك غودار أكثر تجريبية من حيث صياغة الكتابة السينمائية ومقاربة الإخراج، يتعلق الأمر بأفلام مثل فيلم سوسياليزمو (2010)، حيث استخدم تقنيات حديثة لاستكشاف موضوعات اجتماعية وسياسية، وفيلم كتاب الصور الذي يعتبر بمثابة بيان فلسفي عن الوجود الإنساني وعن ذاته، في ظل مناخ تساؤلات نقدية ذاتية عميقة عن المعنى وعن السعادة واللذة والجنس والعنف إلخ.
أثبت غودار أن الإبداع لا يتوقف عند سِنٍّ مُعين، بل يمكن أن يتطور مع العمر، حيث استمر في تحدي التقاليد السينمائية حتى وفاته.
هل يحد العمر من الإبداع أم يُوسعه؟
يشير التحليل المقارن لهذه العينة من السينمائيين إلى أن كبار المخرجين يمكن أن يتخذوا في تطور رؤيتهم ومقارباتهم للفن السينمائي مسارات مختلفة، تختلف باختلاف مرجعياتهم الثقافية والسياسية، وباختلاف انتماءاتهم الحضارية، وباختلاف ذاتياتهم وسريرتهم منذ تكوينها عند الطفولة، وبطبيعة الفترة التاريخية التي عاشوها وتكونوا في مناخاتها، فالمنتمي للحساسيات الثقافية الآسيوية ليس كمن شبَّ في مناخات إفريقيا، ومن شب في أوروبا الاشتراكية لا يشبه من شب في ظل المناخ الأمريكي، ومن شب في المناخ العربي لن يشبه من كبر في المناخ الأسكندنافي، فلا الجغرافية ولا المناخ ولا طبيعة النظام السياسي ولا التكوين الذي تقاه كل منهم يسمح باستنساخ تجارب بعضهم البعض، وحدهم الفاشلون من يلجؤون لمحاولات يائسة لاستنساخ لقيط من هنا وهناك وهو ما لا يعطي سوى هجانة لا هي متسقة ولا هي أصيلة، قد تستغفل الجماهير الفاقدة لمعايير الحكم والتقويم الجمالي، لكنها لن تستغفل لا التاريخ ولا كبار كتابه من نقاد ودارسون وموثقون جديرون بأسمائهم.
يتحول كبار المبدعين السينمائيين مع التقدم في العمر، وفي تجربة الوجود والممارسة المحترفة لفن صناعة الأفلام، يتحولون إلى التأمل الذاتي (سكورسيزي)، أو يعيدوا إحياء الأحلام الطموحة (كوبولا)، أو أنهم يستمروا في الإنتاج بلا كلل (سكوت)، أو في التَّوْقِ بإسم الإنسانية، لبلوغ الحقيقة ولتعرية الأكاذيب والأوهام، (نيتشه)، أو أنهم ينتبهون لضرورة تسجيل مواقف فلسفية يضمنونها هواجسهم السياسية والفكرية، (سارتر)، ويُلبسونها مخاوفهم من استمرارية العنف ومن أكاذيب الإيديولوجيات والقيم الرسمية للمهيمنين والمسيطرين، بغايات لا تُمِتُّ بصِلةٍ لغير نَهمِ السلطة والرغبة الأبدية في الهيمنة، (ابن رشد – ماركيوز – أدورنو – سقراط – ماركس…).
ليست أعمال “شيوخ” السينما معنىً ومضمونًا المُتأخرةُ بالضرورة أقل جودة من أعمالهم الأسبق، بل إنها تعكس تطوُّر وجهاتِ نظرهم عن الحياة، وفي طرائق السرد القصصي لديهم، وفي اختياراتهم للتقنيات السينمائية، بشكل لربما يتطلب من النقاد، (خاصة الشباب أو الأكاديميون الذين غالبًا ما لا يكونون “داخل” فن السينما بل “خارجه”، استيفاء لشروط الدرس الأكاديمي ومتطلباته التي تؤثر بشكل أو بآخر على تمثل السينما كفن، وارتباطًا بثقافة أقل عمقًا وكثافة عن السينما من العصور التي أنتجت كبار السينمائيي القرن العشرون بالنسبة للشباب)، يتطلب منهم خلع جلابيب عصر السرعة والسطحية وثقافة الفاستفود والصور المتسارعة على إيقاعٍ جسدي أكثر منه فكري أو روحي أو فلسفي، في خضوع شبه كامل لقوانين سوق شباك التذاكر وثقافة العولمة وسلعها من “الصناعات الفنية والثقافية” التي لا تكاد تختلف عن “صناعة المحتوى!؟”.
تؤثر إذاً عوامل عديدة ومختلفة في كيفية تعامل المخرجين مع الإبداع في سن متقدمة:
- الخبرة والنضج: يمنح العمر المخرجين عقودًا من الحكمة السردية والفكرية والنفسية، مما يؤدي غالبًا إلى قصص أكثر تعقيدًا وعمقًا. تُظهر أفلام سكورسيزي المتأخرة تطورًا من حكايات العصابات السريعة إلى تأملات متأنية حول الجريمة والأخلاق.
- التطورات التكنولوجية: يستخدم مخرجون مثل ريدلي سكوت التكنولوجيا الحديثة لتعزيز السرد. بينما يرى البعض أن الاعتماد على المؤثرات الرقمية قد يُضعف الأصالة الفنية، يراه آخرون توسيعًا للإمكانات الإبداعية، ليبقى التمكن من توظيفها وفقًا لرؤية واضحة ولتجربة عميقة هو الكشاف عن قيمتها كعنصر ضمن بنية معقدة هي بنية الفيلم السينمائي.
- التحرر من قيود الاستوديوهات/المنتج: غالبًا ما يحصل المخرجون المخضرمون على مزيد من الحرية الإبداعية من كبار المنتجين بالنظر لقيمة أسمائهم في سوق السينما العالمي. يسمح لهم هذا الامتياز باستكشاف مشاريع خاصة وضخمة وفخمة في الغالب، قد تكون مستحيلة التحقيق والترويج عنها في شبابهم. يجسد فيلم Megalopolis لكوبولا وفيلم Gladiator لريديلي سكوت هذا الأمر.
- تغير الرؤية الثقافية والشخصية: مع تقدم العمر، تتغير وجهات نظر المخرجين، مما يؤثر على الموضوعات التي يستكشفونها، فبينما قد تعكس أعمالهم المبكرة تمرد الشباب، تميل أفلامهم المتأخرة إلى التركيز على الإرث، والموت، والتأمل التاريخي حيث يمرون من النقد السياسي والاجتماعي إلى النقد الفلسفي الشمولي والوجودي الطابع في هدوء وشاعرية قد يصعب التقاطها بوعي القراءة السينمائية النمطية والقصيرة النَّفس.
خاتمة
بدلاً من تقييد الإبداع وحصره في نطاق، ما تسمحُ به العادة والأنماط السائدة وسلطة شباك التذاكر من جهة، والرغبة في الكسب المادي وفي الشهرة وفي تحقيق ذاتٍ شابّة ونزقية من جهة ثانية، يمكن أن يكون التقدُّمُ في العمر قوةً صقل للقدرات على الإبداع، تدفع السينمائيين العظماء لاستكشاف آفاق جديدة من الحكي وصيغه وأشكاله، بفهم أعمق وبإتقان تقني أكبر. بينما تفيض الأفلام الأولى بالابتكار الخام وبالمخاطرة، تتمتع الأعمال المتأخرة برُقيٍّ وبتعقيدٍ لا يمكن أن يأتي إلا مع الخبرة الطويلة والمتراكمة إذا كانت هناك موهبة وحفر جدي في أعماق الفن وميكانيزماته وأن لا يكون المخرج كما يقال بالعامية (قْدِيم وغْشِيمْ …).
يُظهر كل من مارتن سكورسيزي، فرانسيس فورد كوبولا، ريدلي سكوت، يوسف شاهين، عباس كياروستامي، وودي آلن، وجان لوك غودار آخرون كيف يمكن للمخرجين المخضرمين أن يختاروا إبطاء الإيقاع للتأمل، أو العودة إلى رؤاهم غير المُكتملة، أو الاستمرار في تجاوز الحدود برصانة أكثر وبعمق أبعد دون توقف.
في النهاية، تتجاوز صناعة الأفلام حدود العمر. ما يهم ليس كون المخرج شابًا أو مسنًا، بل استمراره في تحدي نفسه وفي استيعاب وتوظيف صعوبات الحياة وقسوة التجربة الإنسانية، وفي التمكن من ممارسة واستغلال التجريب، وفي مدى القدرة والشغف والابتكار في تقديم قصص وحكايات آسرة، مذهلة، بسيطة، ودالّة. إذا كان هناك شيء واحد تثبته مسيرة هؤلاء المخرجين الأسطوريين، فهو أن الإبداع لا يتلاشى مع العمر، بل يتحول، ويتعمق، ويصل، في بعض الحالات، إلى أقصى إمكانياته.
كُنا قد تحدثنا في خبر من سكورسيزي إلى كوبولا .. هل تؤثر الشيخوخة على الإبداع السينمائي؟ - غاية التعليمية بأستفاضة، ويمكنك تصفح جميع الأخبار المتعلقة بهذا الشأن عبر موقعنا غاية التعليمية الالكتروني.
0 تعليق