أربعة ألحان - غاية التعليمية
غاية التعليمية يكتُب.. في حديقة «المنارة» القريبة من قلعة أربيل، مرّ فوقي سرب طيور شملني بظلِّه الواسع، مع حفيف الأجنحة الذي كان قريباً وبعيداً. لأن الحدث كان مفاجئاً لي، فكّرتُ عندها بمعنى الفعل «غشى»، وطرقت بالي الآية من سورة لقمان: «وإذا غشِيَهم موجٌ كالظُّلَلِ دعوا الله مخلصين». الظُّلل هو السّحاب، وتشبيه موج البحر به دلالة عجز الإنسان عن ردّ أذاه، مثلما أنا قاصر عن بلوغ سرب الطّيور الذي خطَف من فوقي، وغشِيَني بظلّه وبرفيف أجنحة بثّ الرعب في مفاصلي، ولا أقدر على منعه.
اخر الاخبار العاجلة عبر غاية التعليمية أخبار محلية ودولية، وكذلك أخبار الر ياضة وخاصة كرة القدم يلا كورة و يلا شوت اليوم.
هل يجيء الموت بهذه الصورة؟
من أجل أن أطرد هذه الفكرة عن بالي قمتُ أتمشَّى في الشّوارع القريبة من القلعة. لا شيء يمكن أن يقدم فكرة جيدة عن المدينة سوى القيام بجولة في سوق التحف. ثم دخلتُ محلّا لبيع «الأنتيكات»، ولم أجد شيئاً ذا قيمة غير خنجر قديم مقبضه مرصّع بالجواهر، وعلى نصله نقش لطائر يفرش جناحيه، فهو سوف «يغشى» من يطعنه بالموت، وهذا تفسير واقعي للفعل «غَشِيَ» وليس قاموسيَّاً. كما أن صورة الطَّائر على النَّصل مفروش الجناحين تذكّرنا بالآية 13 من سورة الإسراء: «وكلَّ إنسانٍ ألزمناهُ طائرَه في عنقه»، كأنّ صانع الخنجر كان يقوم بعمل سيميائيّ، تبعاً للآية الكريمة، يرمز إلى كيفيّة طعن العدوّ في نحره، من أجل القضاء عليه بالموت الأكيد.
ثمَّة فصول خاصَّة في كتب التراث تبحث في فنِّ الخطِّ على السُّيوف والأسلحة القديمة. لمَّا عدتُ إليها لم أعثر على ما نُقِش على سيف اقتنيته من تاجر تحف في حي الميدان في بغداد. السَّيف مع مقبضه بطول ذراع، والمعروف أنَّ السُّيوف القصيرة تكون قديمة جدَّاً ونادرة وباهظة الثّمن، أو تُطلب أحياناً أسعارٌ غير معقولة ثمناً لها. تعلّمتُ من تاجر التحف الذي صار بمرور السنين صديقي، كيف أتأكّد من أن نصل السّيف أصيلٌ وقديم، بأن تنظر إلى ظُبَتِه (أي حدّه) في ضياء الشّمس، وسوف ترى حُبيْبات تتخلّل حافّة الظُّبَة. كريّات دقيقة تتلوّن بالأحمر الذّهبي، هي ذكرى دماء الذين سالت أرواحهم إلى الأرض بواسطته. مقبض السّيف حديدي وعليه غطاء من خشب مثلوم ومتكسّر من كثرة الطِّعان. الغمدُ مصنوع من جلد تهرَّأ وبَلِي بسبب القِدم، والنّصل مستقيم ومحتوت بالصّدأ، لكن النّقشَ عليه ظاهر:
«عبدٌ بلا سلاح | كالطّير بلا جناح».
معنى العبدِ في القاموس: الإنسان حُرَّاً كان أم مملوكاً. مرّة أخرى مع الفعل «غَشِيَ» فالمحارب سوف يغشى عدوَّه بسلاحه مثل الموج أو السّحاب، ومثل الطَّير، ولا قدرة له على ردِّه.
أشدُّ أنواع السيوف هي ذات الحدَّين، وتكون عريضة النّصل، وعقفاء، فهي مخصّصة ليحملها المقاتل فوق الفرس، وتكون ثقيلة وتُمسك بكلتا اليدين. ضربة واحدة من سيف ذي حدّين بإمكانها شطر العدوّ إلى نصفين. كتبتُ مرّة في دفتري الشّعريّ:
يا لبهجته،
حجرٌ يُحدّ به السيفُ
وكان السيفُ عريضَ النصلِ
ذا حدّينِ
أحدبْ.
في لغة أصحاب هذه المهنة، وهم يرغّبون زبوناً عند عرضهم إحدى التحف، يقولون له: «انظر إليها، إنها تحكي،» أي تروي ما جرى في ذلك الزمان. معنى هذا أن الفنّ يمكنه أن يسكن قطعة قديمة فتصير جزءاً من الأدب، ونراها عندما نتأملها قصّة ورواية. يقول فلوبير: «بما أن القصص تدور في الماضي، كلّما كان الماضي أبعد، كانت القصّة أجمل».
في ذلك الأصيل الذي جعل الحَرُّ سماءه مائلة إلى البياض، كان أبناء العشيرة وبناتها يملَأون ساحة الاحتفال، وبلغ عدد الحاضرين أكثر من ألف، رغم أنّ الفتى ليس ابن رئيس العشيرة أو أحد أقاربه.
رعاة إبل هُمُ، وخيمتهم الدّائمة هي الصّحراء، أُغلقت دونهم وصارت تمنحهم استقلالاً ذاتيَّاً تكتنز به حياتهم، مع أنهم يقضون أغلب أيام السنة في الجوع والفاقة. قام الفتى عامر من مكانه، وراح يلاعب رمحين، يرميهما إلى الأعلى، ويتلقّفهما بسهولة، ثمّ أسرع في رقصته، وعازفا الرّبابة والمزمار يحاولان أن يلحقا بقفزاته على الرّمل الذي أحرقته الشّمس بلهيبها.
كان الفرسان يدورون وسط النّار المشتعلة بعلوّ شجرة، يتبارزون بالسيوف ويحاولون أخذ قلوب المحتفلين إلى مقاصدها؛ عندما تُقرع السيوف ببعضها من فوق صهوات الخيل، فإن رايات العشيرة ترفرف بصورة مختلفة، والطّبول والدبادب تعزف أنغاماً أخرى. ومع أن الرّقصة بدت كأنّها لن تنتهي، لكن الفتى قطعها فجأة، وجلس في المكان الذي أعد له على الأرض. ثبّت الرّمحين على مقدمي قدميه، وسكتت الموسيقى، وكفّ الجميع عن التصفيق والرقص. ودّ عامر أن يقول شيئاً، لكنّه ظلّ صامتاً، وقد بدت سمرته الخفيفة سعيدة في ضياء الشّمس القّوي، مع عينيه النّجلاوين وشاربه الخفيف.
في هذه الأثناء كان (المُطهِّر) يحضّر أدواته، والنّساء يطلقن الهلاهل، ورايات القبيلة الحمراء ترفرف في الرّيح. أمسكت أصابعه المغطّاة بكشتبانات جلديّة عضوَ عامر الذكريّ، وفرشت الغُلفة على حافة صفيحة معدنية. صاح الفتى، وهو يغرز الرّمحين في مقدمي قدميه أكثر كي يكبح حركتهما: «اقطع، اقطع، وأنْهِ عملَك سريعاً. أنا عامر بن محمد بن عمر بن علي بن جاسم بن محسن بن كريم...».
وظلّ الفتى يصرخ بأسماء أسلافه، لدى كلّ اسم ينشأ هتاف للحاضرين ويحسّ الفتى بهبّة حماس إضافيّة، إلى أن بلغ الجدّ العشرين، وقطع المطهّر الجلدة من عضو الفتى بضربة واحدة. لم تصدر عنه ولا آهة. بالعكس، كان الفتى مبتسماً، ويشعر بأنّ إحساساً جميلاً يخنقه، لأن مذاق هذه اللّحظة كان يتشهّاه منذ زمن بعيد، وهو ما يبحث عنه الآن تماماً. لقد صار في عُرف العشيرة رجلاً يحقّ له حمل عدّة الحرب.
يمكن للغريب تمييز شيخ العشيرة بواسطة عباءته المقلّمة الصّفراء والسّوداء، وكان يحمل مسدَّساً. أطلق النّار، وترك هذا الفعل على الحاضرين تأثيراً مباشراً وهَذَيانيَّاً، حيث تحوّل الحفل من استعراض إلى رقصة حرب. اصطفّ الرّجال الواحد وراء الآخر، ثم ظهرت السيوف اللامعة فوق الرؤوس، وكانت النساء يضربن على الصوان والطبل، ورفع أترابُ الفتى الغُلفة وسط إطلاق الرّصاص الكثيف، وعلَّقوها في رأس رمح مزيّن بألوان من الأقمشة والأغصان والأزهار. ظلّ الفتى يتأمّل المشهد، وصارت سمرته من شدّة الحماس حمراء كاللهب. أغمض عينين مترعتين بدموع السَّعادة، وفتحهما على عالم جديد يدشِّن العيش فيه الآن، عالم لا يخاف فيه من شيء أبداً، لأنه صار يحمل السّلاح.
في الأفق الذي لم يتبيّنْه أحد كانت هناك سبع غزالات يمرقن في البعيد بسرعة كبيرة، ظلّ الفتى يتابعها إلى أن غيّبها المدى، ثم أخذ الجميع يرقصون، ومعهم رئيس العشيرة وأمُّ الفتى وأبوه. عند الغروب فرشت النساء العشاء في سفرات واسعة للجميع. بعد تقديم القهوة أخذ عازف الرَّبابة يؤدي في كلِّ مرَّة بواحد من أربعة نماذج من الألحان، لحن الحبِّ والسَّعادة والحرب والموت.
كُنا قد تحدثنا في خبر أربعة ألحان - غاية التعليمية بأستفاضة، ويمكنك تصفح جميع الأخبار المتعلقة بهذا الشأن عبر موقعنا غاية التعليمية الالكتروني.
أخبار متعلقة :