المستقبل يدوم طويلا .. غربة العقل والفلسفة في عوالم "ألْتوسير" المدمَّرة - غاية التعليمية
غاية التعليمية يكتُب.. يُعتبر لويس ألتوسير Althusser Louis (1918-1990) من أبرز المفكرين الذين ساهموا في تطوير ومساءلة الفكر الماركسي في القرن العشرين؛ وُلد في الجزائر ودرس الفلسفة في باريس، حيث أصبح أستاذًا في جامعة السوربون. كان ألتوسير جزءًا من تيار فكري في فرنسا يسعى إلى إعادة تأويل الماركسية بمنظور جديد، متجاوزًا القراءات التقليدية التي اختزلتها في البعد الاقتصادي، وتميز بتركيزه على دور الأيديولوجيا في تشكيل الوعي الاجتماعي، مما جعله يعيد النظر في الفلسفة بوصفها أداة لكشف البنى الخفية التي تحكم النظام الاجتماعي.
اخر الاخبار العاجلة عبر غاية التعليمية أخبار محلية ودولية، وكذلك أخبار الر ياضة وخاصة كرة القدم يلا كورة و يلا شوت اليوم.
ترتكز فلسفة ألتوسير على مفاهيم محورية، أبرزها الإيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية. لم يكن ينظر إلى الإيديولوجيا باعتبارها مجرد مجموعة من الأفكار والمعتقدات، بل بوصفها بنية متجذرة في مؤسسات المجتمع، مثل المدرسة ووسائل الإعلام والدين، حيث تؤدي هذه المؤسسات دورًا جوهريًا في ترسيخ النظام الاجتماعي والاقتصادي القائم. فهي لا تقتصر على نقل المعرفة أو القيم، بل تعمل، بآليات غير مباشرة، على تشكيل وعي الأفراد وتوجيه سلوكهم بما يضمن إعادة إنتاج العلاقات السلطوية القائمة، مما يجعل الإيديولوجيا قوة غير مرئية تتحكم في الفعل الاجتماعي دون وعي مباشر من الأفراد.
ومن هذا المنطلق، ينتقد ألتوسير النظريات التي تختزل التحليل في البنية الطبقية أو الاقتصاديّة وحدها، مؤكدًا أن الإيديولوجيا تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل وعي الأفراد وتوجيه ممارساتهم، ما يجعلها مفتاحًا أساسياً لفهم آليات اشتغال المجتمعات.
ورغم نجاحه الفكري، كانت حياة ألتوسير الشخصية مليئة بغير قليل من المحن. ففي يوم 16 نوفمبر 1980، وقع حادث مُروّع غيَّر مجرى حياة لويس ألتوسير، حين قتل زوجته خنقًا خلال نوبة من الاضطراب العقلي كان يعاني منه. ونظرًا لغياب شهود عيان، باتت تفاصيل الحادث موضع جدل وتأويلات متعددة؛ اعتبره البعض جريمة عمدية، بينما ذهب آخرون إلى أن الحادث كان عرضيًا نتيجة للاضطراب النفسي الذي كان يعصف بألتوسير بين الحين والآخر. أكد ألتوسير أنه لا يتذكر تفاصيل ما حدث، مشيرًا إلى أنه بينما كان يلامس عنق زوجته، وجد نفسه فجأة قد خنقها. ونظرًا لحالته النفسية، قضت المحكمة بعدم مسؤوليته القانونية عن أفعاله، فتمّ إيداعه مستشفى سانت-آن للأمراض النفسية، حيث بقي حتى عام 1983. وبعد مغادرته المستشفى، استقر في شمال باريس، حيث عاش في عزلة شبه تامة ونادرًا ما التقى بأحد. رغم الانقطاع شبه التام عن الحياة الاجتماعية، استمر في الكتابة، لكنه لم ينشر سوى عدد قليل من الأعمال، كان من أبرزها سيرته الذاتية “المستقبل يدوم طويلاً” “L’avenir dure longtemps”؛ نصّ سيرة ذاتية شاهد على رحلة نفسية وعاطفية متشابكة، يحكي من خلاله ألتوسير تأملاته الشخصية والفلسفية حول الزمن والعقل والإيديولوجيا والجنون. توفي ألتوسير في 22 أكتوبر 1990 عن عمر يناهز الثانية والسبعين إثر نوبة قلبية. ورغم معاناته الشخصية والفكرية، ظل جزء كبير من أعماله، التي كتبها بعد عام 1980، غير منشور حتى بعد وفاته، ما أضفى أبعادًا جديدة على فهم حياته وأفكاره.
هل المستقبل امتداد لا نهائي للماضي، أم قيْدٌ لا ينكسر؟
تعدّ السيرة الذاتية “المستقبل يدوم طويلاً” للوي ألتوسير، التي نشرت بعد وفاته كما أسلفت سنة 1992، بمثابة شهادة فلسفية تمثل الْتقاء معاناة شخصية وأخرى فكرية. يتميّز هذا العمل بفرادته، إذ يغوص في التوتر القائم بين الفكر والعاطفة، بين العقل والجنون، فيكشف للقارئ ألتوسير الإنسان، لا المفكّر فحسب، بما يحمله من تناقضات وانفعالات متشابكة. إنه نصّ يعرّي التداخل المعقّد بين أبعاده الوجدانية والفكرية، سواء في سيرته الشخصية أو في إنتاجه الفلسفي، حيث لا ينفصل العقل عن العاطفة، بل يتحاور معها في صراع مستمر، يمنح رؤاه عمقًا خاصًا، ويجعل من تجربته الفكرية مرآة تعكس اضطراب الإنسان وأسئلته الوجودية القلقة.
تبدأ السيرة بلحظة فاصلة في حياة ألتوسير، حينما عصفت به أزمة نفسية حادة قادته إلى الإقامة في مستشفى للأمراض العقلية. لم تكن هذه التجربة مجرد محنة عابرة، بل شكلت نقطة تحول جوهرية في مساره الفكري، حيث يستعرض معاناته الذاتية متأملًا أثرها العميق في رؤيته للعالم. بهذا، تكمن أهمية هذه السيرة في كشفها عن التداخل الوثيق بين الاضطراب النفسي والتجربة الفكرية، إذ لم يكن ألتوسير قادرًا على فصل اضطرابه العقلي عن مشروعه الفلسفي.
كيف يمكن فهم أزمة ألتوسير في هذه السيرة؟ هل كانت مجرد أزمة مرضية، أم أنها كشفت عن اهتزاز يقينه الفكري أيضًا؟ لماذا بدأ يراجع مفاهيم ماركسية ظل متمسكًا بها لسنوات، وما الذي دفعه إلى الشك في الإيديولوجيا والمجتمع؟ وإلى أي مدى نجح في التوفيق بين رؤيته الفلسفية للإيديولوجيا والممارسات الاجتماعية والسياسية التي راودته الشكوك حول قدرتها على سبر أغوار ذاته وكينونته وهي تتعرض للانكسار تحت وطأة المرض؟
من هذا المنظور، تُعد العلاقة بين الإيديولوجيا والعقل أحد المواضيع المركزية في كتابه “المستقبل يدوم طويلاً”. لا يهتمّ ألتوسير بتحليل الإيديولوجيا بوصفها أداة لفرض الهيمنة الفكرية، بقدر ما يكشف عن صلتها بالبنية العاطفية والنفسية للإنسان. فمن خلال إقامته في المصحة النفسية، يتبدى له أن الإيديولوجيا لا تعمل فقط على تشكيل الأفكار والمعتقدات، وإنما تتسلل إلى الوعي الذاتي، لتعيد صياغة علاقة الفرد بذاته والعالم من حوله. من هنا كان اغترابه النفسي اضطرابا داخليا، وانعكاسًا لصراع بين وعيه الشخصي والقوالب الإيديولوجية التي استمرت في فرض سطوتها على إدراكه، حتى في لحظات انهياره التي لم يعد قادرا فيها على فهم العواطف وتمثلات الفكر.
الألم العاطفي والتفكير الفلسفي
يكشف ألتوسير في سيرته الذاتية عن معاناته الشخصية بطرق غير مألوفة، حيث يروي الحزن العميق الذي عاشه بعد وفاة زوجته هيلين في لحظة انهيار عصيب، وهو ما ترك أثرًا عاطفيًا وفكريًا بالغ الأثر في نفسه. أصبح الإحساس بالذنب والعذاب النفسي جزءًا محوريًا في تفكير ألتوسير، طبع تجربته الشخصية بأعباء نفسية. أصبحت العواطف التي يشعر بها مثل الندم والحزن، جزءًا من تفكيره الفلسفي.
“المستقبل يدوم طويلاً” تأمل عاطفي لما يكتنف أعماق الكينونة، ومحاولة من ألتوسير لمصالحة أفكاره الفلسفية مع الواقع القاسي الذي عاشه في لحظة عصيبة من حياته.
تتجلى أبعاد هذا التأمل من خلال سعي ألتوسير لفهم ما عاشه على المستوى الوجودي، محاولًا تفكيك التراجيديا الشخصية التي شكلت محطّات مفصلية في تجربته الذاتية. لا يتعلق الأمر بالبحث عن تفسير لحدث عارض، بل هو مسار طويل من الاستكشاف العميق لذاته في مواجهة مع عالم مُشوّه ومُربك، يكشف عن تناقضاته ويعري أوهامه. في هذا السياق، كانت معاناة ألتوسير محاولة لإعادة بناء الهوية بعد انهيارها، وتحديًا لفهم الواقع من منظور مغاير، بعيدًا عن الإيديولوجيات التي شكّلت نظرتَه للعالم، لينطلق نحو إعادة فهم نفسه بطرق جديدة، مُنقِبًا عن حقائقٍ أعمق تتجاوز الصور النمطية التي فرضتها ثقافة وعقائد مُهيمنة.
إنه بحثٌ عن معنى جديد للوجود بعد أن تجلتْ له هشاشة الحياة وتناقضاتها، وإعادة صياغة للعلاقة بين ذاته والعالم في لحظة من العزلة الفكرية والنفسية القاهرة.
بين العاطفة والسياسة
وجدتُ من خلال قراءتي لهذه السيرة الذاتية أن ألتوسير يهتمّ بتحليل فكرة التحرر من قبضة الإيديولوجيا من زاوية عاطفية متجاوزا الفهم التقليدي لها باعتبارها مجرد نظرية سياسية. وقد تبيّن لي أن الإيديولوجيا بحسب فهمه لا يقتصر تأثيرها على الفكر فحسب، بقدر ما يمتد نحو القلب والمشاعر. يمثل هذا الفصل بين الحياة السياسية والعاطفية نقطة محورية من أجل فهم تفكير ألتوسير، حين يُظهر كيف أن الإيديولوجيا ليست مجرد قيد فكري، وإنما هي أيضا عنصر مؤثر في التكوين العاطفي للفرد.
وعلى هذا النحو، ومن خلال إعادة تقييم آرائه السابقة حول الماركسية، يحاول ألتوسير إيجاد رابط جديد بين السياسة والإيديولوجيا والتجربة الذاتية، وهذا أمرٌ يجعلني أزعم أن هذه السيرة لا تقتصر على تقديم نقد للإيديولوجيا من زاوية سياسية بحتة، بل يمزجها ألتوسير بأبعادها المؤثرة على الوعي والعاطفة (على الأقل من خلال تجربته الشخصية) بعيدا عن أيّ تجريد نظري ممكن.
الفلسفة باعتبارها محاولة للشفاء
يمكن اعتبار السيرة الذاتية للتوسير”المستقبل يدوم طويلاً” جسرا بين الفكر والفعل، بين المعاناة النظرية والمعاناة الشخصية. هكذا، يقرّبنا ألتوسير من فهم مواجهة الذات والمجتمع في صورتهما الأكثر قسوة وصدقًا. يجد القارئ نفسه أمام عمل يتأمل أعماق الفكر والعاطفة، حين تتداخل الإيديولوجيا مع الجنون، والفلسفة مع الوجدان.
في الفصل الأخير من “المستقبل يدوم طويلاً”، يلتقي لوي ألتوسير بصديق قديم، طبيب نفسي، ويعرض عليه نص سيرته الذاتية. لم يكن اللقاء مجرد مراجعة أدبية، بل كان محاولة أخيرة لفهم الذات، وكأن ألتوسير يبحث عن تبرير أو حكم نهائي على ماضيه المضطرب. غير أن الطبيب، بدلاً من تقديم إجابة واضحة، اختار الصمت أو التحفظ، مما ترك الفيلسوف في مواجهة الفراغ ذاته الذي حاول ملأه بالكتابة. يكشف هذا المشهد عن مأزق ألتوسير: هل يمكن للبوح أن يبرر فعل قتل زوجته؟ هل تستطيع الكتابة تحرير الإنسان من ذاكرته؟ كان ألتوسير يأمل أن يمنحه الطب النفسي تفسيرًا موضوعيًا، لكنه وجد أن الصمت أبلغ من أي تحليل. لم يكن هذا الصمت إدانةً صريحة، لكنه لم يكن تبريرًا أيضًا، بل كشف عن استحالة تطويق المعاناة بالكلمات وحدها. يعكس لقاء ألتوسير بالطبيب، في جوهره، التَّوتر بين الفلسفة والتحليل النفسي. حاول ألتوسير إعادة تشكيل ماضيه من خلال السرد، لكنّ الطبيب بَدَا مدركًا أن بعض الجروح لا تلتئم بمجرد فهمها. وهكذا، لم يكن الفصل الأخير نهايةً حاسمة لقضية ملتبسة، إنه استمرار لسؤال يبقى مفتوحًا:
هل يستطيع الفكر تحرير الإنسان من ماضيه، أم أنه يظل أسيرًا له رغم كل محاولات الفهم والتأويل؟
في “المستقبل يدوم طويلاً”، يتوارى لوي ألتوسير خلف الكلمات ليعيد تشكيل ذاته المحطمة عبر الكتابة. بعد قتله لزوجته، لا يسعى إلى تبرير ما حدث، بل يكتب من أجل استكشاف هاوية الجنون التي ابتلعته. في هذا النص، ينقّب ألتوسير في ذاكرته المضطربة، فيكشف عن رجل يتأرجح بين وعي مُنهك وحياة فَقَدت تماسكها. إنه اعتراف يتجاوز السيرة، حين يتحول الزمن إلى متاهة، والمستقبل إلى عبء ثقيل لا ينقضي، في سرد يجمع بين الألم والفكر، بين التراجيديا والتحليل الحادّ لذات جرفتها عاصفة لا رجوع منها.
بين ثنايا هذا الاعتراف المروّع، تتجلى مأساة فيلسوف تداخلت رؤاه الفكرية مع هشاشته النفسية، فصار أسير جدلية مُوجعة بين العقل والروح. تحوّلت حياته إلى شظايا مُتناثرة، يحاول جمعها بالكلمات، كأنما ينقذ ذاته من غرق بطيء. غير أن المستقبل ظلّ معلقًا، مثل حُكم مؤجل إلى أجل غير مسمى… مثل ندبة لا تهدأ، وجُرح لا يلْتئم…
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
كُنا قد تحدثنا في خبر المستقبل يدوم طويلا .. غربة العقل والفلسفة في عوالم "ألْتوسير" المدمَّرة - غاية التعليمية بأستفاضة، ويمكنك تصفح جميع الأخبار المتعلقة بهذا الشأن عبر موقعنا غاية التعليمية الالكتروني.
أخبار متعلقة :